من “ظرفاء الغلابة” إلى نشطاء الحقوق والسياسة!

"ظرفاء الغلابة"

بعد القبض على فرقة الهواة التي سماها الجمهور العام “ظرفاء الغلابة”، تضاعفت شهرتهم، ومن كان لا يعرفهم بحث عنهم، واستمع إليهم.

السلطة اعتقلتهم، ربما لمنع رسالتهم من اتساع انتشارها، فساهمت في هذا الانتشار، وظهرت مجددًا بمظهر من يضيق صدره من أي تعبير يمارسه الناس عن معاناتهم، حتى لو كانوا غير مُسّيسِين، ومن أدنى فئات الشعب تعليمًا وثقافة، في وقت تتحدث فيه عن حوار سياسي، وعن حرية اعتناق الآراء والأفكار.

الفرقة تقدم اسكتشات غنائية عفوية بسيطة عن ارتفاع الأسعار ومصاعب العيش، وأعضاؤها الأربعة يستفيدون من موسيقى أغاني مشهورة، مثل أغاني عبد الحليم، ويقومون بتركيب كلمات عليها تعكس قلة ذات اليد.

الكلمات مكتوبة بشكل واقعي معبر عن شكاوى الناس من نار الأسعار، وهي الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة والمعقدة والمقلقة بشكل خاص للحكومة.

والأداء المبتكر للفرقة يجذب مشاهدين بالملايين لفيديوهاتها، فالمحتوى والقضية التي تعالجها تمس غالبية المصريين، وفيديو واحد لها أكثر تأثيرًا من عشرات الساعات من التنظير السياسي لكبار المفكرين والمحللين والخبراء.

توفيق عكاشة مثلًا نجح بأسلوبه المصطنع بذكاء في استمالة ملايين من البسطاء إليه خلال العام الوحيد لحكم مرسي، وجعلهم يصطفون ضده، ولا أبالغ إذا قلت إن شخصيات تنتمي إلى مهن راقية كانت تتابعه وتتفاعل معه.

مشكلة صفاء وهالة

واتساع نطاق التجاوب مع فرقة “ظرفاء الغلابة” واستلطافهم، هو جوهر مشكلتهم مع سلطة تخشى مثل هذه الأنشطة فردية أو جماعية، عفوية أو منظمة، فهي لا تود أي مفاجأة تخلط الأوراق وتغير المعادلات التي وضعتها وتحافظ عليها كما هي بكل وسيلة منذ تسع سنوات.

القبض على الظرفاء يذكرنا بفرقة اسمها “أطفال الشوارع”، بدأت تقديم محتوى فني شعبي عادي، ولما اقتربت من السياسة والحكم بالنقد تم القبض على أعضائها الستة في مايو 2016، وظلوا في حبس احتياطي حتى يناير 2017، واتُّهِموا بالتحريض على التظاهر ونشر مقاطع فيديو مسيئة للدولة.

وفي هذا السياق يمكن تفسير القبض قبل أيام على صفاء الكوربيجي، وهي صحفية بمجلة الإذاعة والتلفزيون ولديها إعاقة، لكن أمام الهاجس الأمني يتساوى أصحاب الهمم الذين تبدي السلطة رعاية خاصة لهم، مع غيرهم من الأصحاء، فلا ميزة لأحد هنا.

لم أسمع باسمها حتى انتشر نبأ القبض عليها، وبحثت عنها في الإنترنت فوجدت أنها تقوم ومعها مقدمة برامج مخضرمة بالتلفزيون اسمها هالة فهمي بالدفاع عن الحقوق المالية للعاملين في مبنى الإذاعة والتلفزيون الذين يواجهون أوضاعًا صعبة بسبب بؤس الحالة التي وصل إليها تلفزيون الدولة، وتراكم الديون عليه، وعدم قدرته على تحقيق مداخيل مالية كما كان قبل إهماله وتأسيس منظومة إعلامية بديلة أو موازية.

تقديري أن مشكلة صفاء وهالة بدأت أمنيًّا مع حديثهما عن وثيقة سحب الثقة من السيسي. هنا لا تسامح مطلقًا، كما حصل مع الكاتب الأستاذ عبد الناصر سلامة رئيس تحرير الأهرام الأسبق حيث كان يكتب ويتحدث كما يشاء، وعندما كتب مقاله الشهير عن السيسي، كان التوقع العام منذ اللحظة الأولى أنه سيُقبَض عليه، وهو ما حصل منذ عشرة أشهر، وهو المصير ذاته الذي آل إليه المرشح الرئاسي السابق عبد المنعم أبو الفتوح.

قد يتم تمرير مواقف نقدية للأداء العام للسلطة، لكن الاقتراب من رأسها يعتبرونه في مراكز القرار خطًّا أحمر غليظًا لا تهاون فيه، مهما كانت الظروف أو الانتقادات الحقوقية الخارجية.

ونبيل أبو شيخة

وفي نفس المسار جرى قبل أيام القبض على محام من مركز شبين القناطر بمحافظة القليوبية، يُدعَى نبيل أبو شيخة، وانتشرت أنباء بأن اعتقاله جاء على خلفية نشره عدة تدوينات تسخر من مسلسل “الاختيار 3″، في صفحته على فيسبوك.

وخرج بيان أمني ينفي القبض عليه بسبب منشورات الاختيار، ويرجع ذلك إلى قضية أمن دولة عليا تعود للعام الماضي. بحثت عنه وقرأت ما نشره عن المسلسل المثير فوجدتها منشورات عادية، فأيّ عمل فني مهما كان مضمونه ليس له حصانة، وإنما هو عرضة للنقد، خاصة إذا كان يتعرض لفترة شديدة الجدل.

علمت من أحد المحامين أن نبيل أبو شيخة كانت له قضية تجمهر العام الماضي بإحدى المحاكم، وانتهت بغرامة مالية عليه، بعد طعن النيابة في الحكم الأول بالبراءة، وعلمت أن هناك شكوكًا حوله بسبب قيامه بالدفاع في قضايا لها علاقة بعناصر إخوانية كعمل وكسب للرزق.

الآلام تطال عائلات من تحدثنا عنهم هنا، ومعهم عائلة الباحث الاقتصادي أيمن هدهود الذي ينتمي إلى حزب الإصلاح والتنمية، ورئيسه محمد أنور السادات على علاقة قريبة من الحكم، ويقوم بدور خارجي بالتنسيق مع الحكومة لتحسين صورة ملف حقوق الإنسان في مواجهة الانتقادات الأجنبية.

عائلة أيمن تسلمت جثته لدفنها قبل أيام، بعد اختفائه  في 5 فبراير الماضي، وعبثًا حاولت الوصول إليه بين الشرطة والنيابة فلم تصل لشيء، وفي 9 أبريل الجاري تلقت اتصالًا من الشرطة تطلب منها استلام جثمانه، وقيل إنه توفي في 5 مارس.

إذا كانت النيابة أكدت أن وفاته طبيعية لإصابته بمرض مزمن في القلب، فالسؤال المثير للدهشة: لماذا التكتم على أمره منذ القبض عليه حتى دعوة عائلته لاستلام جثمانه ودفنه؟ فالعائلة سألت عنه في قسم الشرطة والأمن الوطني والنيابة ومستشفى الأمراض النفسية، ولا إجابة بشأنه.

ببساطة لماذا لا يتم إعلام عائلة من يتم القبض عليه بمكان وجوده فورًا، ويأخذ التحقيق مجراه الطبيعي العلني، سواء مع الراحل هدهود، أو “ظرفاء الغلابة”، أو صفاء الكوربيجي، أو المحامي أبو شيخة، أو غيرهم ممن يجدون أنفسهم مطلوبين في مثل هذه المحن، وهذا حق وفق الدستور والقانون؟

عقلية الأمن

إدارة السياسة بعقلية الأمن تضر السياسة ولا تفيدها، ولو كان كل من ينتقد شيئًا -ولو بطريقة لطيفة تنسجم مع روح الشعب المصري المجبول على السخرية- سيتعرض للمساءلة، لكان ترامب أسوأ من حكم أمريكا اعتقل أكثر من نصف مواطنيه، لأنهم لم يكونوا حتى ظرفاء في معارضته، إنما كانوا ساحقين ماحقين في الهجوم عليه.

والحرية هي الأمان للحكم لأنه سيعرف ماذا يقول الشعب بصراحة، والتكميم والإخفاء خطر حقيقي حيث ينتج عنه غضب مكتوم وغليان تحت السطح، وتزدهر النكتة السياسية القاسية، وتتهيأ البيئة لانتشار الإشاعات، وتضيع الحقيقة.

وكل من يكتب أو يتحدث عن شيء سلبي يضيء كشافًا يخدم السلطة عندما ينقل لها نبض شرائح وفئات من الناس بصراحة ودون نفاق.

ونختم بما قاله السيسي في حديثه للصحفيين والإعلاميين في توشكى: “مش حختلف معاك في أفكارك، فكر زي ما أنت عايز، واعتنق ما شئت، بس لو سمحت نحافظ على بلدنا، لو اتفقنا على كده، احتفظ بأفكارك، وعش بها كما تريد، أنا مش عايزك تغير أفكارك سواء مسلم، مسيحي، واللي مش مؤمن خالص، نحن مواطنون، وهذه دولة قانون، واللي يغلط يتحاسب، وأنا أولهم”.

إذن، رأس السلطة مع الحرية، حتى في الاعتقاد، ومع دولة القانون والمحاسبة للجميع، ويضع نفسه في مقدمة من يخضع لدولة القانون.

ليت هذا الكلام يتم تطبيقه بحذافيره وبوضوح وشفافية ونزاهة وعدالة على المقبوض عليهم، بل الجميع، فالحرية والكرامة والعدالة، أثمن ما في الوجود، وهي حقوق أصيلة وراسخة للأفراد والشعوب.

المصدر : الجزيرة مباشر