عمران خان يكشف التنظيمات الشائخة

مظاهرات في باكستان مؤيدة لعمران خان

 

لست معنيًّا هنا بتحليل الحالة الباكستانية، ولا استشراف مستقبلها، عقب نجاح المعارضة في الإطاحة برئيس الوزراء السابق عمران خان، إثر سحب الثقة من حكومته.

لكن ما يهمني وشدني في المشهد حتى اللحظة، هو ذلك الأداء السياسي الرشيق الذي أداه -ولا يزال- ذلك الوافد إلى عالم السياسة من دنيا “الكريكيت” التي كان فيها نجمًا يشار إليه بالبنان، وأجبرنا في الثمانينيات على متابعة أخباره رغم جهل المنطقة العربية باللعبة، التي تتركز تقريبًا في دول التاج البريطاني “الكومنولث”.

ولقد فوجئت بخان يقتحم عالم السياسة منذ سنوات، من خلال عضوية البرلمان، لكنه لم يكن هو ذلك الشاب الجامح الذي ملأت حكاياته وقصصه الصاخبة في لندن صفحات الجرائد والمجلات، كان شخصية أخرى ربما تناسب عمره (سيتم عامه السبعين بعد أشهر قليلة)، لكني اعتقدت حينها أن مغامرة الرجل لن تتعدى تلك العتبة، لكنه أكمل المغامرة حتى وصل إلى رئاسة الحكومة.

في الأزمة السياسية الأخيرة، التي تابعنا فصولها يومًا بيوم، أجبرنا عمران خان على المقارنة بين أدائه وأداء تنظيمات وجماعات تملأ الآفاق ضجيجًا، لكن في نهاية المطاف لا نرى طحينًا، وإنما هزائم نتجرع مرارتها منذ عقود، وربما لعقود أخرى مقبلة.

نشاهد حتى الآن ونقارن رغمًا عنا، بين أداء سياسي رشيق، وآخر شائخ مترهل يجيد النحيب أكثر من خلق البدائل واغتنام الفرص وبناء استراتيجيات واضحة، ومعرفة متى يتقدم ومتى يتأخر.

ليس الغرض مرة أخرى، الخوض في المضمون، لكن التركيز على الشكل، على الأداء السياسي.

الزعامة السياسية والأوهام التنظيماتية

روجت الحالة التنظيماتية في عالمنا العربي سردية مفادها أن خلاص الأمة في “الجماعة” وأنها وحدها القادرة على انتشال الأمة من محنتها لتؤسس بها الحكومة الإسلامية ثم الخلافة الإسلامية وصولًا إلى أستاذية العالم، وفي سبيل تحقيق تلك الأهداف داس “بلدوزر” التنظيم على أي قيادة صاعدة يشتم من أدائها أنها قد تصعد جماهيريًّا على حساب التنظيم!

لكن هذه السردية فاتها، أن الشعوب ليست مهيأة سيكولوجيًّا كي تنقاد إلى جماعة أو تنظيم، لكنها قد تسلم قيادها لفرد تتحقق فيها مقومات الزعامة، وعلى مسافة منه يأتي من بعده تنظيم أو حزب يكون بمثابة الرافعة السياسية والمجتمعية.

ففي تركيا، رغم الإنجازات الكبيرة التي حققها حزب العدالة والتنمية على مستوى البلديات أو الحكومة، فإن شعبية رئيسه أردوغان تسبقه بما لا يقل عن 10%.

وتاريخيًّا، فإن جميع الإنجازات والانتصارات التي أدت دورًا في مسار التاريخ، تحققت على يد زعماء استثنائيين نجحوا في حشد التأييد الشعبي خلف رؤيتهم ثم انطلقوا صوب تحقيق ذلك الإنجاز.

لكن طغيان “الجماعة” على “الفرد” أدى إلى إقصاء كفاءات كثيرة كان من الممكن أن تمارس دورًا إيجابيًّا في التغيير.

ولعل هذا الصخب الشديد الذي يصاحب بعض الخارجين من عباءة “التنظيم” والذي يصل إلى الرغبة في الانتقام المعنوي وأحيانًا المادي لو استطاع إلى ذلك سبيلًا، مردّه إلى حالة “الطغيان” الذي مورس عليه أثناء وجوده داخل التنظيم، وكيف تم سحق شخصيته بأدوات “السمع والطاعة” و”الثقة” و”البيعة”، ناهيك عن حالات الترهل الداخلي التي تسمح بنشوء مراكز قوى تتحكم في مفاصل الجماعة على حساب المؤسسية والشورى والشفافية. كل هذا يؤدي إلى الانفجار واللدد في الخصومة.

في حالة عمران خان “الشخص” لم يكن هناك تنظيم يكبل حركته، أو يتسلط على تفكيره، لذا تحرك برشاقة وسط مجتمع سياسي معروف بتعقيداته الصعبة والمخيفة، ونجح في حشد الجماهير فكانت تلك الحشود الهادرة التي رأيناها في لقائي بيشاور وكراتشي، إيذانًا بميلاد زعيم سياسي صار رقمًا صعبًا في المعادلة الباكستانية.

اللجوء إلى الحاضنة الشعبية

كان خيار اللجوء إلى الشعب واحدًا من أهم البدائل التي استخدمها عمران خان لمواجهة خصومه السياسيين الذين تمكنوا من تأمين الأصوات اللازمة لسحب الثقة منه.

فكانت المصارحة هي الآلية الأهم في استدعاء الشعب إلى صفه، بلغة واضحة لا تحتمل اللبس ولا الغموض.

أعلن خان للشعب الباكستاني عن وجود مؤامرة تستهدفه شخصيًّا، كاشفًا عن تفاصيلها الدقيقة، التي تتلخص في لقاء مسؤول كبير بوزارة الخارجية الأمريكية السفير الباكستاني في واشنطن، وتسليمه رسالة تحذر من بقاء عمران خان في السلطة، وأن رحيله ضروري للحفاظ على العلاقات بين البلدين.

الشعب هنا ليس ضيفًا على المشهد السياسي يتم استدعاؤه وقت التصويت، ثم صرفه دون اكتراث له، بل هو صاحب الحق الأصيل في معرفة ما يدور في كواليس الحكم إذا تعلق الأمر بمصيره ومستقبله السياسي، وكما أنه الملاذ الآمن لأي حاكم ضد المؤامرات الخارجية شريطة احترامه ومعرفة كيفية إدخاله إلى حلبة الصراع. والشعوب بطبيعتها تحترم الحاكم القوي الذي يرفض الخضوع للمؤامرات الداخلية أو الخارجية.

وقد تابعنا في ليلة الانقلاب الفاشل في تركيا قبل نحو 6 سنوات، كيف استغل أردوغان فرصة ظهوره التلفزيونية المحدودة ليصارح الشعب بأن ما يحدث هو محاولة انقلاب من أفراد داخل الجيش، طالبًا منهم أن يخرجوا إلى الشوارع وأن يواجهوا ذلك الانقلاب، فلم يصبح الصباح إلا والمتآمرون في قبضة الشعب التركي.

لكننا ابتُلينا بتنظيم اعتبر ما يحدث في أروقة الحكم سرًّا يخص الجماعة وحدها، ولا يصح أن يطلع عليه الشعب حتى اللحظة، بل قوبلت محاولات تدوين بعض الشهادات بالهجوم الضاري والعنيف!!

وهنا نعيد التذكير بالساعات الأخيرة قبل الثالث من يوليو/تموز 2013 حينما تسمّر المصريون أمام شاشات التلفاز ينتظرون أن يحدّثهم رئيسهم -رحمه الله- حديثًا لا تنقصه الصراحة عما يحدث وماذا يفعلون، لكنهم فوجئوا بخطاب طويل أنسى آخره أوله دون أن يظفروا بشيء، رغم أن المؤامرة حينها كانت قد اكتملت وتمت وظهر الخيط الأبيض من الأسود فيها.

ومع خطاب عمران خان الواضح والصريح لشعبه، فطن بعض “التنظيميين” لما ينتظرهم من مقارنة ومحاسبة، فاستبقوا ذلك بخطاب يحط من الشعب المصري، بالادعاء المعد مسبقًا، من أنه لا وجه للمقارنة، لأن الشعوب تختلف من حيث درجة الوعي والإيمان بالحرية!! وهو خطاب تكرر من قبل في التجربة التركية وسيتكرر في أي تجربة لاحقة، والهدف منه التخلص من المسؤولية بإلقائها على الشعب وحده.

وإحقاقا للحق والتاريخ الذي يتعرض للتشويه لصالح التنظيم، فإن ردة فعل المصريين على الإطاحة بالرئيس المنتخب في 2013 كانت رائعة، وستسجل تاريخيًّا لصالحهم، فقد تدفق الملايين منهم إلى الشوارع والميادين، انتصارًا لإرادتهم واختيارهم، لكن القوم صرفوهم، أو أقاموا بهم في ميدان رابعة لأكثر من 40 يومًا، حتى تم فض الاعتصام بوحشية، لنكتشف بعدها أن الهدف من الاعتصام كان تحسين شروط التفاوض وليس عودة الرئيس المنتخب، كما كانت تنادي منصة رابعة!!

كانت السردية القائمة آنذاك تلح وتصر على أن هذه الجموع الحاشدة في القاهرة والمحافظات، لا يمكن أن تكون تعبيرًا عن “جماعة” بعينها، بل هي تعبير عن جموع المصريين التي انتفضت دفاعًا عن الرئيس المغدور.

لكن بعد سنوات قليلة، سنجد أنفسنا أمام سردية أخرى معيبة تحمّل الشعب مسؤولية ما حدث لأنه لم يدافع عن الرئيس، وأنه لم يتصدَّ للانقلاب! وأنه..وأنه..إلخ، وصولًا إلى نتائج أشد عيبًا وفجاجة من كون هذا الشعب لم يكن يستحق ذلك الرئيس!!

والحقيقة أن الشعب كان مغيَّبًا، ولم يكن شريكًا في اتفاقات الغرف المغلقة، وكان يتمنى أن يخرج عليه رئيسه ليشرح له حجم المؤامرة التي يتعرض لها بعبارات واضحة وصريحة وليست ملغزة.

وهذا ما نجح فيه عمران خان بجدارة، فقد اختار العودة إلى الشعب الذي اختاره ومنحه الثقة، فارتفعت شعبيته عما كانت عليه رغم المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها الشعب الباكستاني والتي خصمت من رصيده قبل ذلك.

السياسي لا يقف محلك سر

الوقوف في السياسة يعني الموت والتلاشي، والسياسي الذي يعترف بأنه لم يعد لديه ما يفعله مكانه الطبيعي هو الجلوس في المنزل.

وقد تابعنا كيف تنقّل عمران خان بين البدائل المتاحة، ولم يُغفل واحدًا منها، فاستعمل البدائل البرلمانية تحت قبة المجلس التشريعي، ونجح في إفساد جلسة سحب الثقة قبل أن تنقضها المحكمة العليا وتأمر بإعادتها.

ثم وجّه أنصار حزبه إلى الاستقالة من البرلمان، وأخيرًا نزل بنفسه إلى الساحات ليقود المظاهرات الحاشدة.

وما فعله خان، ويفعله غيره، هو ما يجب أن يكون موضع دراسة للفاعلين في الحالة المصرية خروجًا من النفق المظلم الذي يراد حشرنا فيه، حيث يتم الإلحاح على أن حالة “اللافعل” التي بدا عليها المشهد المصري قبل انقلاب يوليو 2013 كانت أفضل الحلول وأشدها روعة وجمالًا!!

وكلما تساءل أحد: لماذا لم يفعل الرئيس كذا؟ أو كان يمكنه أن يفعل كذا، تجد الإجابة جاهزة وحاضرة أن ذلك لم يكن ممكنًا، وأن الانقلاب كان واقعًا بكل حال من الأحوال!

إذَنْ، إذا كان الانقلاب قدرًا مقدورًا لا يمكن دفعه أو مواجهته، فلماذا أخرجتم الناس إلى الشوارع؟ ولماذا عرّضتموهم للصدام غير المتكافئ مع الجيش والشرطة؟! ولماذا لم تسلّموا السلطة بكل هدوء بدلًا من هذه الخسائر البشرية والمادية العظيمة؟!

وأخيرًا..

أثبت لنا عمران خان أن الحل ليس صعبًا، ولا يحتاج إلى تضييع سنوات وسنوات في إنشاء كيانات، حتى إذا انطفأ بريقها ونساها الناس، يتم إنشاء أخرى، لكنه يتطلب قائدًا سياسيًّا، متحررًا من سطوة التنظيم، وليس في عنقه بيعة لأي جماعة أو شخص، ويمتلك رؤية واضحة نابعة من آلام الشارع ومتطلباته.

نقطة ومن أول السطر.

المصدر : الجزيرة مباشر