الأزهر إذ يتحرك وسط حقول ألغام

شيخ الأزهر

 

حين تخوض الأحزاب والقوى السياسية معارك كبرى في قضايا تشغل الرأي العام فإنها تفعل ذلك انطلاقًا من خلفياتها وبرامجها، وهي بالتأكيد تسعى لكسب الرأي العام، أملًا في تصويته لصالحها في الاستحقاقات الانتخابية، لكن الأزهر -وغيره من المؤسسات الوطنية المستقلة- حين يخوض معركة كبرى فإنه يفعل ذلك انطلاقًا من واجبه الدستوري فقط، وليس ادعاءً لبطولة أو كسبًا للرأي العام لأنه ببساطة لا ينافس على سلطة مثل الأحزاب.

يدرك الأزهر أنه يتحرك وسط حقول ألغام، ولذا فهو لا يتعامل بخفة مثل بعض من يتولون مناصب دينية رسمية أخرى، فكل حركة أو كلمة -أو حتى همسة- محسوبة عليه، والمتربصون به كثر، بدءًا من متشددين مسلمين ومسيحيين، وعلمانيين، وانتهاء بقمة السلطة، يتفقون جميعًا على تقليص دور الأزهر إن لم يكن الإجهاز الكامل عليه، إذا أرضى فريقًا أغضب آخرين، وإذا تعرّض لمسألة عاجلة حوصر بأسئلة عن قضايا آجلة، هذا يريد جره لتبنّي موقفه، وذاك يريد سحبه إلى مُربّعه، وإن لم يفعل فهو متحجر، متخلف، يريد جر البلاد إلى العصور الوسطى!! أو في المقابل يريد علمنة الإسلام!! وهي اتهامات متناقضة في أصلها وفصلها، ما يجمعها فقط هو النيل من الأزهر.

سر قوة الأزهر

يستمد الأزهر قوته من مهمته التاريخية في الدفاع عن الإسلام الحنيف، وقبول المصريين وعموم المسلمين لهذا الدور على مدى أكثر من ألف سنة، كما يستمد استقلاله من الدستور الذي ضمن ذلك في مادته السابعة (الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على كافة شؤونه، وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية، ويتولى مسؤولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم. وتلتزم الدولة بتوفير الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه. وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء).

حصل الأزهر على هذا المكسب الدستوري بفضل ثورة يناير التي أتاحت له -كما أتاحت لغيره من المؤسسات الرسمية والشعبية- حرية التعبير، والمشاركة في صنع مستقبل الوطن، ووضع الأسس الدستورية الحاكمة للجميع، فكان له ممثلوه في الجمعية التأسيسية للدستور، وكان هناك دعم من غالبية الأعضاء لمطالبه بالاستقلال بعد عهود طويلة من الخضوع للسلطة التنفيذية.

التحرش المستمر بالأزهر

التحرش بالأزهر سواء من السلطة أو من النخب الثقافية، وإقحامه في قضايا عبثية مصطنعة بهدف إحراجه أصبح أمرًا متكررًا، يضطر الأزهر أحيانًا إلى التعاطي مع بعض هذه القضايا تجنبًا لفتنة، كما حدث مع أزمة مسيحي أو مسيحية يريدان تناول الكشري أو الكحوليات في نهار رمضان!!

معركة تجديد الخطاب الديني هي المعركة الممتدة التي فُرضت على الأزهر، والتي يقودها رأس النظام، ووجدت فيها النخب العلمانية فرصتها لضرب أسس الدين وقواعده، وكان لزامًا على الأزهر أن يتصدى لها انطلاقًا من واجبه الديني وتكليفه الدستوري، خاصة في ظل غياب أو تغييب القوى الإسلامية التي كانت تتصدى لمثل هذه المعارك.

أحدث جولات هذه المعركة تمثّل في أعمال درامية رمضانية، تجرأت على ثوابت الدين، وعلى علماء الأزهر، فكان لزامًا عليه أن يرد، وكان رده فرصة لوضع مبادئ وقواعد فقهية في التعامل مع الإبداع والفنون بشكل عام.

رؤية أزهرية للإبداع

لو نظرنا إلى الرد الصادر عن مركز الأزهر العالمي للفتوى حول أحد المسلسلات الرمضانية المثيرة للجدل فإننا سنجد عدة مبادئ تمثل جانبًا مهمًّا من رؤية الأزهر للفن والإبداع، ومساعي البعض للشهرة على حساب الدين، ومنها:

دعم الإبداع المستنير الواعي، والتحذير من الاستهزاء بآيات القرآن الكريم، وهدم مكانة السُّنة النبوية، وإذكاء الأفكار المتطرفة، وتشويه صورة عالِم الدين في المجتمع. تشويه المفاهيم الدينية، والقِيم الأخلاقية؛ بهدف إثارة الجدل، وزيادة الشهرة والمشاهدات؛ أنانية ونفعية بغيضة، تعود آثارها السلبية على استقامة المجتمع، وانضباطه، وسلامه، ولا عِلم فيها ولا فن. تجديد الفكر وعلوم الإسلام حِرفة دقيقة يُحسنها العلماء الراسخون في المحاضن العلمية المتخصصة، قبل نشره على الشاشات أو بين غير المتخصصين، والفكر المتطرف في أقصى جهتيه جامد يرفض التجديد بالكلية في جهة، أو يُحوّله إلى تبديد للشرع وأحكامه في الجهة الأخرى. طرح القضايا الدينية والمجتمعية العادلة في قوالب مشبوهة يظلم هذه القضايا، واستخدام المنهج الانتقائي الموجه في عرض مشكلة مجتمعية، لا يعرضها من جميع جوانبها، ولا يسهم في حلها، بل يفاقمها، ويزيد الاستقطاب حولها، ويعكّر السلم المجتمعي، ويُصدّر للعالم صورة مجتزأة وسلبية عن المجتمع على غير الحقيقة والواقع. الشحن السلبي الممنهج في بعض الأعمال الفنية تجاه الدين؛ بنسبة كل المعاناة والإشكالات المجتمعية إلى تعاليمه ونصوصه؛ تحيّز واضح ضده، واتهام له بضيق الأفق والقصور، ونذير خطر يؤذن بتطرف بغيض فيه أو ضده، ويهدد الأمن الفكري والسلم المجتمعي. التستر خلف لافتات حقوق المرأة لتقسيم المجتمع، وبث الشقاق بين الرجال وزوجاتهم بدلًا من محاولة زرع الود والمحبة وعرض النماذج المُثلى للأسرة الصالحة، وتصوير بعض الأفراد للتراث الإسلامي عدوًّا للمرأة، واستخدام الإعلام والدراما لتشويه هذا التراث؛ فكر خبيث مغرض يستبيح الانحرافات الأخلاقية ويحاول تطبيعها، كما يستهدف تنحية الدين جانبًا عن حياة الإنسان وتقزيم دوره، ويدعو إلى استيراد أفكار غربية دخيلة على المجتمعات العربية والإسلامية، بهدف ذوبان هُويّتها وطمس معالمها.

وأخيرًا، ما كان للأزهر أن يزأر بهذا الموقف إلا بفضل الالتفاف الشعبي حوله، والنص الدستوري الضامن لاستقلاله، ولكن هذا الاستقلال لا يزال منقوصًا، وحتى يكتمل فإنه يلزم رد أوقاف الأزهر إليه حتى تكون لديه ميزانيته المستقلة التي ينفق منها بإرادته الكاملة على علمائه وأنشطته الدعوية والدراسية والبحثية وغيرها.

المصدر : الجزيرة مباشر