في ذكرى سقوط “الإنقاذ”.. هل ثمة خيانة أطاحت بنظام البشير؟

عمر البشير

صبيحة الحادي عشر من نيسان/ أبريل 2019 كانت شمس الإنقاذ الصفراء توشك على الرحيل، وكان بندول الساعة يتأرجح وراء أسوار القيادة العامة للجيش، حيث تدور بالداخل اجتماعات اللجنة الأمنية التي كونها المشير البشير للتعامل مع الاحتجاجات الشعبية وحالة الاحتقان السياسي، وذلك قبل أن يطل وزير الدفاع آنذاك الفريق عوض بن عوف من شاشة التلفاز، ويعلن للشعب السوداني اقتلاع رأس النظام والتحفظ عليه في مكان آمن، لا يزال يقبع فيه حتى اليوم.

أسرار المغامرة العسكرية

بعد تلك المهمة الخطرة، سمها استجابة لإرادة الشعب، أو مغامرة عسكرية، غادر الضباط الثلاثة الكبار، وزير الدفاع عوض بن عوف، ورئيس هيئة الأركان كمال عبد المعروف، ومدير جهاز الأمن والمخابرات صلاح قوش، مسرح الأحداث الداوية، وتركوا أمر البلاد في يد المفتش العام للجيش حينها الفريق عبد الفتاح البرهان الضابط الذي يتسم بالغموض، وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان حميدتي. غادر ضباط اللجنة الأمنية وانطوت دخيلتهم على أسرار دفينة، وقرروا الصمت للأبد، دون أن يعرف الناس كيف ولماذا أطاحوا البشير من منصبه، وهو الذي أوكل لهم مهمة التعامل مع الغضب الثوري، فكانوا وقودًا وحجارة لذلك الغضب؟!

الفريق ابن عوف بعد أن أدرك أن سفينة الإنقاذ لا محال غارقة، أراد أن يهبط بأمان مكتفيًا بتلاوة البيان الأول، وعزل نفسه رسميًّا، ولا سيما أنه حل الحكومة التي يشغل فيها منصب النائب الأول ووزير الدفاع وتولى الانقلاب بصفته رئيسًا للجنة الأمنية التي كونها البشير المقتلع بكل قراراته بما فيها قرار تكوين اللجنة الأمنية نفسها، وبالتالي انتفت أي وظيفة لابن عوف. كذلك فإن المجلس العسكري الذي ورث اللجنة الأمنية احتفظ بكلمة سرّ لم يبُح بها، وبدا أن الجنرالات بمن فيهم ابن عوف ونائب مدير الجهاز جلال الشيخ ومدير الشرطة حينها الفريق الطيب بابكر الذي قيل إنه واجه البشير بعبارة “مخالف سعادتك”، تواثقوا جميعهم على عدم إفشاء ما قاموا به في تلك الليلة الإبريلية الغامضة، وتركوا الناس في حيرة من أمرهم.

ثورة أم انقلاب؟

في رواية ديسمبر والثورة هنالك حلقة مفقودة يتعامل معها البسطاء بدهشة متى تسللت خيوط منها إلى النور، وتتجلى بين الحين والآخر مؤشرات لحراك خفي يحاول توجيه الأمور إلى هدف محدد، من خلال المرحلة الانتقالية، لكن لا أحد يستطيع أن يجزم بماهية القوى الفاعلة على الأرض، إلى الآن، وهي قوى تبدو كما لو أنها خليط من أحلاف الكارتيل وبعض الضباط الكبار، والطبقة الانتهازية من السياسيين والناشطين، وعملاء المخابرات العالمية، وسماسرة البنك الدولي، ومجالس إدارة شركات الاستيراد والتصدير، والقطط السمان بالطبع، والمنبتين من أيديولوجيات أكل عليها الدهر وشرب. أولئك جميعهم لعبوا أدوارًا مختلفة بعد سقوط البشير، ولكن ثمة رواية أقرب إلى الحقيقة تزعم أن ما جرى هو انقلاب عسكري احتضنته قيادة الجيش عبر الجماهير ليكتسب صبغة ثورية، وقد شارك فيه التنظيم الأمني للحركة الإسلامية بقوة، متوخيًا طريق الإصلاح السياسي، وقد عزلوا أجهزة الحزب والحركة الإسلامية بعيدًا عن مشاورات اللحظات الأخيرة، وقد سارت الأمور بعد ذلك في مسالك وعرة، حتى اضطرت الحركة الإسلامية بعد أشهر قليلة من سقوط الإنقاذ للتحقيق في ما جرى، وبدأت بالفعل تكوين لجنة لمحاسبة أعضائها الذين انقلبوا عليها، سواء كان ذلك في الصف المدني أو العسكري، لكنها لم تنشر أي معلومة بخصوص تحقيقاتها تلك، وطوت أوراقها في صمت غريب، واكتفت بالإشارة إلى خيانة من الداخل شاركت فيها أطراف خارجية، دون أن نعرف من هو البطل ومن هو يهوذا الإنقاذ الذي سيشنُق نفسه!

مصير الجنرالات الغامض

اختار صلاح قوش القاهرة لتكون منفاه الاختياري، واختار الفريق ابن عوف المملكة العربية السعودية دون أن تصدر منه أي جلبة تلفت الأنظار، ولم يره أحد إطلاقًا بعد آخر ظهور له وهو يلقي البيان الأول، أما الفريق كمال عبد المعروف فلا أحد يعرف مكانه بالضبط، لكنه على الأرجح يتنقل في سرية تامة بين السعودية والإمارات ومصر. أما المكون العسكري الذي جاء بعد تلك الأحداث فقد ظل مسيطرًا على الأوضاع من داخل مجلس السيادة حتى نهاية الشراكة مع قوى الحرية والتغيير، وقد وصف الدكتور حسن مكي ذلك المكون بأنه الإنقاذ (3)، أما البشير حبيس سجن كوبر فقد مثل عبئًا ثقيلًا على المجلس العسكري الانتقالي، في تصور شكل المحاكمة والإدانة، وفي تنامي شعبية الضابط السجين، الذي هتف له البعض بالعودة ليخلصهم من عذاباتهم بوصفه آخر مشير يتحاشى الجيش مس أقدميته، وربما جاء الخطر على الضباط الذين نازعتهم طموحاتهم في وراثة البشير من رمزيته العسكرية والشعبية التي يحظى بها في المجتمع السوداني وحتى داخل المؤسسة العسكرية.

لا يوجد رئيس

في أول ظهور له داخل قفص الاتهام وقف البشير ليدلي بشهادته لأول مرة، وكان يتحدث عن نائبه السابق ابن عوف وبقية الضباط بنبرة عادية، ولم يتهم أيًّا منهم بالخيانة، وكان يمر بخفة وحذر على كافة تفاصيل الانقلاب عليه، كما لو أنه لا يرغب في تسمية الأشياء بمسمياتها، لكن الأوضاع الآن بعد نحو أربع سنوات من سقوط نظام الإنقاذ لا تزال تتسم بالغموض، ولا تزال كثير من الأسرار قابعة في الصدور، ولا يزال السودان يبحث عن رئيس يشغل المنصب التنفيذي الأول، ويتمتع بقدر من القبول والكاريزما القيادية، ولا سيما أن البلاد تسبح في فراغ عريض، ويشارك المجتمع الدولي في تعقيد الأمور أكثر فأكثر، ولا يريد أهل السودان وساسته التوافق على من يأخذ بيدهم إلى بر الأمان.

المصدر : الجزيرة مباشر