حول الانتخابات الرئاسية الفرنسية

ماكرون ولوبان

انتهت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، بترشح إيمانويل ماكرون الرئيس المنتهية ولايته ومارين لوبان زعيمة حزب التجمّع الوطني (الجبهة الوطنية سابقًا) ليلتقيا مجددًا في الدور الثاني المقرر في 24 من الشهر الجاري، ليحتد بذلك التنافس بين الخصمين اللذين التقيا سابقًا عام 2017، وفاز ماكرون حينها بولاية أولى من خمس سنوات، ويطمح حاليًا إلى الفوز بولاية ثانية، ليقطع الطريق أمام اليمين المتطرف.

وشهدت المنافسات في الجولة الأولى للرئاسيات الفرنسية سباقًا جمع 12 مترشحًا. كشفت نتائج الجولة الأولى ليوم الأحد 10 أبريل/نيسان -وفق ما نُشر من أرقام- فارقًا كبيرًا بينهم، اذ حصل إيمانويل ماكرون على نسبة 27.84% ومارين لوبان على 23.15 %. وقد تخطى زعيم حزب “فرنسا الأبية” جون لوك ميلانشون عتبة الـ20% إذ استفاد من تشتت اليسار وضعف قدرة مرشحي الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي وحزب الخضر على إقناع الناخبين ببرامجهم.

وقد كشفت الانتخابات الرئاسية انهيار الأحزاب التقليدية من اليمين واليسار على السواء.

ولم تفلح فاليري بيكريس -زعيمة حزب الجمهوريين من اليمين- في تحصيل أكثر من 4.78%، وكذلك عجزت آن هيدالغو -مرشحة الحزب الاشتراكي ورئيسة بلدية باريس- عن تجاوز 1.75%، وهو ما يُعد صفعة قوية من الناخبين لحزبين كانا حاكمَيْن لوقت قريب، ولا يخلو منبر اعلامي من رموزهما أو مؤيديهما.

وحصل إريك زمور على 7.07% من الأصوات، وهو المحسوب على اليمين المتطرف الكاثوليكي، والذي قضم من أصوات ناخبي مارين لوبان، ومما لا شك فيه أنه نجح أيضًا في جذب عدد من الناخبين إلى صف اليمين المتطرف، أغرته نبرة المترشح الحادة والمتطرفة وعدائيته لـ”ماكرون”، ومن المتوقع أن يصوت هؤلاء الوافدون لصالح لوبان خلال الجولة النهائية في 24 أبريل.

وقد سارع زمور -مضطرًا لذلك لا محالة- إلى دعوة ناخبيه للتصويت لصالح مارين لوبان في الجولة الثانية، مُعرضًا عن الدعوات لإغرائه بالتنكر لزعيمة أقصى اليمين، ومعتبرًا بموقف مبدئي بأن الأمر لا يحتمل مساومة.

غياب ماكرون

من جانبه، غاب الرئيس المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون في بداية الحملة الانتخابية، بسبب انشغال  بلاده بالغزو الروسي لأوكرانيا والعقوبات التي يرتبها تجاه موسكو، ولم يتفرغ للناخبين إلا في الأسبوع الأخير.

وتفاعلًا مع المرحلة، أثار المترشحون قضايا الناخبين الحارقة المتمثلة -بصفة خاصة- في تبعات التضخم المالي وارتفاع تكلفة المعيشة وفواتير الغاز ووقود السيارات وضعف معاشات المتقاعدين، بجانب مسألة الهجرة التي أصبحت من ثوابت الخطاب الشعبوي.

وبناء عليه، فقد اتضح الاستقطاب الثلاثي للساحة السياسية كالتالي: على جهة اليسار قطب اجتماعي بيئي من حزب الخضر يقوده جون لوك ميلانشون بلا منافس تقريبًا، وقطب وسط ليبرالي يقوده إيمانويل ماكرون، وعلى اليمين قطب ينعته منافسوه بالمتطرف تقوده مارين لوبان بلا منازع، بعد أن حاول إريك زمور أن ينتزع منها الزعامة منذ ظهوره الإعلامي الطاغي بنهاية الصيف الماضي.

أما بقية التشكيلات السياسية التي كانت في الحكم منذ سنوات، فقد كانت نتائج الدور الأول بمثابة إعلان لوفاتها، إذ إن مرشحة الحزب الاشتراكي ومرشح الحزب الشيوعي مجتمعَيْن لم يحصلا حتى على العدد الأدنى من الأصوات الذي يسمح باستعادة مصاريف الحملات الانتخابية الباهضة.

ولا يستبعد المراقبون مفاجأة في الجولة الثانية من جانب الذين قاطعوا الانتخابات في الجولة الأولى،  للتعبير عبر صناديق الاقتراع عن ضيقهم بسياسات الرئيس المنتهية ولايته. وقد يدعم هذا الاحتمال عزوف ناخبي اليسار المنكسرين بعد تقهقر مرشحيهم من المشهد السياسي في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، بعدم رغبتهم في المشاركة في الجولة الثانية، وبذلك يفتحون الباب واسعًا أمام مارين لوبان، خاصة أنه لا يفصلها عن منافسها غير عدد ضئيل من النقاط.

تصاعد اليمين

وتثبت الإحصاءات التصاعد التدريجي لليمين المتطرف منذ عام 2002، وثباته في ضمان المرتبة الثانية في الانتخابات الرئاسية رغم الحملات الإعلامية الموجهة ضده ومحاصرته بالوصم والاتهام، إلا أنه أثبت قدرته على العناد وتوسيع قاعدة ناخبيه خصوصًا في الضواحي والأرياف، كما أنه أفلح في توظيف المشكلات الاقتصادية والأمنية كمضخات لشحن النفوس ضد الحكومات المتعاقبة والمهاجرين  وسياسات الاتحاد الأوربي.

وأظهرت دراسة صادرة عن المركز الوطني للبحوث العلمية أن الحضور المكثف لأطروحات اليمين المتطرف منذ 6 أشهر في المنابر الإعلامية مع المرشح إريك زمور، نجح في اتساع دائرة المقتنعين بأطروحاته، حتى أن مارين لوبان بدت أقل تطرفًا منه خصوصًا تجاه المهاجرين ومظاهر التدين ونمط الاستهلاك الحلال.

ومن جانب آخر، لم يعد الوصم بانتخاب اليمين المتطرف محرجًا لعدد كبير من الناخبين الفرنسيين،  فالتركيز على القضايا المتصلة بحياة الناخبين ومعاناتهم اليومية هي معيار الجذب في أي خطاب دعائي إبان الحملات الانتخابية.

ويمكن تفسير انحسار دور الأحزاب التقليدية بغياب القضايا الكبرى التي ينقسم حولها الناخبون انطلاقًا من مرجعياتهم الأيديولوجية، مثلما كان الأمر عندما طُرحت قضايا البطالة مثلًا، وتباينت حينها مواقف المترشحين من اليسار أو اليمين.

ولعل الأسوأ مما يخشاه المتابعون هو اعتماد الخطاب الشعبوي في الدعاية للجولة الثانية على شيطنة الخصوم واستثارة غرائز الكره تجاههم، لاستمالة الناخبين أو تنفيرهم باستخدام شبكات التواصل الاجتماعي التي لا تخضع في معظمها للمعايير الأخلاقية والمدنية.

ويبقى السؤال الذي يطرحه المتابع العربي حول هذا الحراك الانتخابي، هو موقف المهاجرين والمسلمين، لمن سيمنحون أصواتهم مع وضعهم الذي لا يُحسدون عليه؟

المؤكد أنه مهما كانت خياراتهم، ستظل “كاريزما” ماكرون أو لوبان -ليلة المناظرة التلفزيونية- محدِّدة لاختيار أفضلهما، خصوصًا لدى الناخبين الحائرين بشكل عام، ممّن لم يقرروا بعد لأي منهما سيصوّتون.

المصدر : الجزيرة مباشر