الصيام وتصحيح الرؤية “2/2”

لم يقتصر اقتران الصيام بالجهاد على الاقتران الأول في غزوة بدر، بل اقترن الشهر الفضيل بالفتوحات الكبرى والانتصارات العظمى، حيث وقع فيه الفتح الأعظم لمكة المكرمة في 20 رمضان عام 8 هجرية.

وكذلك فتح الأندلس في 28 رمضان عام 92 هجرية، حيث وصلت جيوش المسلمين بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير إلى أبواب أوربا منطلقة من  الأندلس، حتى أصبح نصف فرنسا الجنوبي في قبضة المسلمين، ثم كانوا على بعد كيلومترات قليلة من الوصول إلى باريس وفتح بقية فرنسا، وذلك في معركة بلاط الشهداء التي كانت في رمضان 114 هجرية، ثم فتح عمورية أهم مدن العالم المسيحي في رمضان من العام 223 هجرية، بقيادة الخليفة العباسي المعتصم، ثم موقعة عين جالوت بقيادة الملك المظفر سيف الدين قطز، وقائده الباسل ركن الدين بيبرس، الذين أوقفوا زحف المغول في 25 رمضان سنة 658 هجرية، وكانت بداية هزائمهم.

وفي العصر الحديث في العاشر من رمضان 1393 هجرية، السادس من أكتوبر 1973م، حدثت حرب العبور التي حطمت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر.

معنى الصيام

ولعل هذا التلازم الواضح هو الذي جعل الحرب ضروسًا على شهر رمضان لإفراغه من محتواه، وصرف الناس عن أهدافه ومعناه.

لكن دعاة البعث الجديد، ورموز الجهاد والتجديد، رابطوا على هذا الثغر لاستعادة ثوبه القشيب، فهذا العلّامة محمود شاكر شيخ العربية وحامل لوائها كتب عن الصيام تحت عنوان “عبادة الأحرار” ودعا إلى تأمل هذه العبادة من هذه الزاوية:

“تأمَّل معنى الصيام من حيث نظرت إليه، هو عتق النفس الإنسانية من كل رقٍّ، من رقِّ الحياة ومطالبها ومن رقِّ الأبدان وحاجاتها في مآكلها ومشاربها، من رقِّ النفس وشهواتها، ومن رقِّ العقول ونوازعها، ومن رقِّ المخاوف حاضرها وغائبها، حتى تشعر بالحرية الخالصة، حرية الوجود، وحرية الإرادة، وحرية العمل.

فتحرير النفس المسلمة هو غاية الصيام الذي كُتب عليها فرضًا وتأتيه تطوعًا، ولتعلم هذه النفس الحرة أن الله الذي استخلفها في الأرض لتقيم فيها الحق، ولتقضي فيها بالحق، ولتعمل فيها بالحق، لا يرضى لها أن تذلَّ لأعظم حاجات البدن؛ لأنها أقوى منها، ولا لأعتى مطالب الحياة؛ لأنها أسمى منها، ولا لأطغى قوى الأرض؛ لأنها أعزُّ سلطانًا منها.

وقد دلَّنا الله سبحانه على طرف من هذا المعنى إذ جعل الصيام معادلًا لتحرير الرقبة في ثلاثة أحكام من كتابه:

إذ جعل على من قتل مؤمنًا خطأ تحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 92].

وجعل على الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا تحرير رقبة من قبل أن يتماسّا {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4]

وجعل كفارة اليمين تحرير رقبة {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196].

معاني الحرية

فانظر لِمَ كتب الله على من ارتكب شيئًا من هذه الخطايا الثلاث: أن يحرر رقبة مؤمنة من رقِّ الاستعباد، فإن لم يجدها فعليه أن يعمل على تحرير نفسه من رقِّ مطالب الحياة، ورقِّ ضرورات البدن، ورقِّ شهوات النفس، فالصيام كما ترى هو عبادة الأحرار، وهو تهذيب الأحرار وهو ثقافة الأحرار.

ولو حرص كل مسلم على أن يستوعب بالصيام معاني الحرية، وأسباب الحرية، ومقاليد الحرية، وأنف لدينه ولنفسه أن تكون حكمة صيامه متعلقة بالأحشاء والأمعاء في بذل طعام أو حرمان من طعام- لرأينا الأرض المسلمة لا يكاد يستقرُّ فيها ظلم؛ لأن للنفوس المسلمة بطشًا هو أكبر من الظلم، بطش النفوس التي لا تخشى إلا الله، ولا يملك رقَّها إلا خالق السموات والأرض وما بينهما، ولرأينا الأرض المسلمة لا يستولي عليها الاستعمار؛ لأن النفوس المسلمة تستطيع أن تهجر كل لذة، وتخرج من كل سلطان، وتستطيع أن تجوع وتعرَى، وأن تتألم وتتوجع صابرة صادقة مهاجرة في سبيل الحقِّ الأعلى، وفي سبيل الحرية التي ثقفها بها صيامها، وفي سبيل إعتاق الملايين المستعبدة في الأرض بغير حق وبغير سلطان.

واستطاع كل مسلم أن يكون صرخة في الأرض تلهب القلوب، وتدعوها إلى خلع كل شرك يقود إليه الخوف من الظلم، ويفضل إليه حب الحياة وحب الترف وحب النعمة، وهي أعوان الاستعمار على الناس.

ويوم يعرف المسلمون صيامهم حق معرفته، ويوم يجعلونه مدرسة لتحرير نفوسهم من كل ضرورة وكل نقيصة، فحقٌّ على الله يومئذ أن ينصر هذه الفئة الصائمة عن حاجات أبدانها وشهوات نفوسها، الطالبة لما عند ربها من كرامته، التي كرَّم بها بني آدم، إذ خلقهم في الدنيا سواء أحرارًا، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى وفعل الخيرات.

ويومئذ ينصرهم على عدوهم، ويستخلفهم في الأرض مرة أخرى لينظر كيف يعملون” أ. ه‍

(جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 2003م، (2/937).

الثورة على الظلم

وإذا كان العلّامة محمود شاكر قد جعل الصيام عبادة التحرر والانفلات من ربقة العبودية إلا لله، فقد جعله د. عمر عبد الرحمن الطريق الموصل لذلك، لأن الحرية لا تُنتزع إلا عن طريق الثورة على الظلم، ورفض صور الخسف، والصيام مدرسة ذلك، فكتب في مجلة (المرابطون) عدد مايو 1990 تحت عنوان: “رمضان ثروة وثورة”

“إن صيام شهر رمضان ثروة وثورة، ثروة تأخذ منها العطاء والسخاء والجود والكرم -كان رسول اللهﷺ أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان- وتأخذ منها الدعاء والسؤال والتضرع والابتهال {وإذا سألكَ عبادي عنّي فإنّي قريبٌ أجيبُ دعوةَ الداعي إذا دعانِ}، وتأخذ منها الاعتكاف لا سيما في العشر الأواخر، عن عائشة قالت: (كانَ رسولُ اللهِﷺ إذا دخلَ العشرُ الأواخرُ شدَّ مِئزرَهُ وأحيا ليلَهُ وأيقظَ أهلَه) .

وصيام رمضان ثورة ترجّ وتزلزل عروش الظلم والطغيان، وتسحق وتمحق صروح البغي والعدوان، فعلى امتداد التاريخ الإسلامي ثورات تنشب وتتأجج في رمضان، وكان الجهاد يتزايد ويتضاعف في رمضان. ففي صدر الإسلام كان في رمضان يوم بدر ويوم الفتح، وفيه تسمع كلمات الثورة والقوة وإبعاد شبح الضعف والجبن والخَور من صحابي يقول كلماته التي تدوي في الدنيا: “امضِ يا رسولَ اللهِ لِما أردتَ فنحنُ معكَ واللهِ لا نقولُ لكَ كما قالتْ بنو إسرائيلَ لموسى اذهبْ أنتَ وربُّكَ فقاتِلا إنّا ها هُنا قاعدون، ولكنْ نقولُ: اذهبْ أنتَ وربُّكَ فقاتِلا إنّا معكما مقاتلون، نقاتلُ عن يمينِكَ وعن شمالِكَ ، ومِن بينِ يديكَ ومِن خلفِكَ، والذي نفسي بيدِهِ لو سرتَ بنا إلى بركِ الغمادِ لجالدْنا معكَ مِن دونِهِ حتى تبلغَه “.

وفي رمضان دخل رسول اللهﷺ مكة ظافرًا منتصرًا، وجاء نصر الله والفتح، فقال لأهلها وهم قعود في المسجد الحرام: “لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه، صدقَ وعدَه، ونصرَ عبدَه، وهزمَ الأحزابَ وحدَه، يا أهلَ مكةَ ما تظنّونَ أنّي فاعلٌ بكم قالوا: خيرًا أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ قالَ: اذهبوا فأنتمُ الطلقاء” أ. ه‍

ما أكّده الشيخ شاكر والدكتور عمر هو تصديق حديث رسول اللهﷺ: (يحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خلَفٍ عدولُه، ينفونَ عنهُ تحريفَ الغالينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الجاهلينَ) صحيح رواه أحمد.

ولولا هؤلاء العدول في كل جيل، لقيل إن صيامكم غير صيام الأوائل، ورمضانكم غير رمضان أسلافكم، والحقيقة أننا تشابهنا في الفعل، واختلفنا في الغاية والهدف، فإذا كان صيامهم جهادًا وفتحًا، فقد أصبح صيامنا طبخًا ونفخًا!

لن تنعتق الأمة من أغلالها إلا إذا رجعت إلى صيام الأوائل، وعلامة ذلك إذا رأيت منابرنا تردد صدى محمود شاكر وتعلم صيام الأحرار، ودروسنا تكرر على الآذان ما كتبه عمر عبد الرحمن عن رمضان الثوار، عندها يتحقق النصر ويأتي الفتح، ويدخل الناس في دين الله أفواجًا.

المصدر : الجزيرة مباشر