قتالُ المسلمين في الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة.. مقاربة شرعيّة

الجيش الشيشاني

عندما تندلع الحرب تندلع معها الأسئلة الشّائكة التي تحتاج إلى تضافر العقول الشرعيّة المؤسّسية للإجابة عنها دون تردّدٍ أو تباطؤ، فإنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وما إن اندلعت الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة حتّى ظهرت أسئلةٌ كثيرةٌ حول مشاركة المسلمين في القتال في هذه الحرب المتدحرجة.

 الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره

من أجل تقدير الحكم الشرعيّ في المسألة لا بدّ من تفكيك صورتها، وهي في حالتنا هذه مركّبة متشابكة، فيها عناصر عديدة يمكن فرزها إلى أربعة عناصر أساسيّة متعلّقة بالمسلمين:

1.   المسلمون الشيشانيّون من جنود قديروف الذين يقاتلون في جيش بوتين، ومنهم من قاتل مكرهًا وبعضهم قاتل مختارًا مندفعًا.

2.   المسلمون الأوكرانيّون الذين دعاهم مفتي أوكرانيا للقتال مع الجيش الأوكرانيّ، أو الذين قاوموا الرّوس خارج دائرة الجيش.

3.   المسلمون الذين يتطوّعون للقتال في أوكرانيا من مختلف البلدان تحت عنوان محاربة العدوان الرّوسي.

4.   النّظام الرّوسي والنّظام الأوكراني المتحاربان وامتداداتهما في النّظام الدّولي، فهما واضحان في رايتهما التي لا علاقة لها بالإسلام من قريب أو بعيد.

فالصّورة تكتنفها هذه العناصر الأربعة، وسبب التّشابك فيها هو الحالة التي أوجدتها الدّولة الحديثة من هلاميّة الانتماء لمفهوم الأمّة، وتداخل الالتزام الوطني مع الالتزام الدّيني، إضافة إلى ما أحدثه امتداد العدوان الرّوسي إلى بلدان مختلفة من العالم الإسلاميّ -منها سوريا مثلًا- من إرباك في تحرير الصّورة وتكييف المسألة.

 هل قتال المسلمين الأوكرانيّين وغيرهم من المسلمين المتطوّعين من الجهاد؟

الجهاد القتاليّ نوعان؛ جهاد الطّلب وجهاد الدّفع، ومن المقطوع به أن قتال المسلمين في هذه الحرب ليس من جهاد الطلب، فهل هو من جهاد الدّفع؟ وهنا يبرز سؤالان:

السّؤال الأوّل: هل قتال المسلمين في أوكرانيا ضدّ العدوان على بلادهم هو من جهاد الدّفع؟

إنّ المسلم إذا تعرّضت حياته أو عرضه أو ماله أو أرضه إلى عدوانٍ مباشر فإنّ من حقّه أن ينهض لردّ العدوان دون الرّجوع إلى أحد أو استئذان أحد، وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح حسن:

“منْ قُتِل دُونَ مالِهِ فهُو شَهيدٌ، ومنْ قُتِلَ دُونَ دمِهِ فهُو شهيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهو شهيدٌ، ومنْ قُتِل دُونَ أهْلِهِ فهُو شهيدٌ”.

فالمسلمُ الأوكرانيّ الذي تعرّض إلى تهديدٍ مباشرٍ على حياته أو ماله فنهض ليقاوم المعتدي بردّ طبيعيّ فطريّ ويذود عن نفسه وعرضه وماله مخلصًا النيّة فهو مجاهد، وإن قتل فهو شهيد.

ولكن هذا لا يعني أن ينخرط المسلم الأوكراني في الجيش الأوكرانيّ ويشارك في هذه الحرب تحت إمرةٍ واضحةٍ من النّظام الأوكرانيّ غير المسلم وخوض حربٍ غير واضحة المعالم والأهداف، ولا علاقة لها بمصلحة المسلمين والإسلام، إلّا في حالةٍ واحدةٍ وهي اضطراره للدّفاع عن نفسه وماله ولا سبيل إلى تحقيق ذلك إلّا من خلال القتال مع الجيش الأوكراني.

السّؤال الثّاني: ما حكم تطوّع المسلمين من بلدان أخرى بالقتال في أوكرانيا؟

وهذه المسألة تعتورها قضيّتان متداخلتان؛ الأولى أنّ من حقّ المسلمين محاربة المعتدي الرّوسي الذي اعتدى على أرضهم وحرماتهم ودمّر بلاد المسلمين في سوريا وغيرها، والثّانيّة: هجرة المسلم لأجل القتال تحت رايةٍ غير مسلمة صريحةٍ في كفرها، في حربٍ غير واضحة المعالم ضبابيّة الأهداف.

من خلال النّظر في مآلات الأمر وما يترتّب عليه من مفاسد خطيرة متعلّقة بجعل الشباب المسلم وقودًا لمعركة يتطاحن فيها العالم، وغياب “الرّاية الواضحة” وغياب “الهدف الواضح” من القتال وهما أمران مركزيّان في فلسفة الجهاد في الإسلام، فإنّه يمكننا القول بكلّ وضوح: إنّ المفاسد المترتّبة على هذا النّوع من القتال أعظم بكثير من المصالح المرجوّة منه، ولذلك فإنّ ذهاب المسلمين إلى أوكرانيا للتّطوع في القتال فيها بأيّ شكلٍ من الأشكالِ أو تحتَ أيّة ذريعة من الذّرائع، أو تطوّع المسلمين الأوكرانيين في القتال مع الجيش الأوكراني بغير ضرورة حقيقيّة غير جائز، وكلا الحالتان قتالُ جاهليّة، ينطبق عليهما قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم في صحيحه:

“مَن قاتَلَ تَحْتَ رايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أوْ يَدْعُو إلى عَصَبَةٍ، أوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فقِتْلَةٌ جاهِلِيَّةٌ”.

وماذا عن المسلمين الشّيشانيين المقاتلين في جيش بوتين؟

أمّا الآلاف من المسلمين في الشيشان الذين جنّدهم قديروف للقتال في جيش بوتين، فهم لا يدافعون عن دينٍ ولا عن أرضٍ ولا عن عرض، بل إنّهم يقاتلون في جيش من دمّر بلادهم وانتهك حرماتهم قبل سنوات قليلة، فقتالهم هذا نوعٌ من الارتزاق المحرّم، والولاء الصريح لأعداء الدين؛ الولاء الذي يعني المناصرة والمظاهرة لهم في حروبهم ومعاركهم، وقد قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ”.

ويستثنى من هذا الحكم المقاتلون الذين تم اقتيادهم من بيوتهم ومن الشّوارع رغمًا عنهم وتمّ زجهم في هذه الحرب فإنّهم ينطبق عليهم حكم المُكرَه، فلا إثم عليهم وإن قُتلوا في المعركة بُعثوا يوم القيامة على نيّاتهم.

 فتوى العلّامة القرضاوي

إبان الحرب على العراق صدرت فتوى للعلامة القرضاوي طارت بها الركبان تنصّ على جواز مشاركة المسلمين الأمريكان في القتال مع الجيش الأمريكيّ الذي جاء غازيًا أرض العراق.

والفتوى في الحقيقة سؤال وجّه إلى بعض العلماء في أمريكا وغيرها فصاغوا فتوى وصوروا الأمر على أنّ كارثةً ستحلّ بالمسلمين في أمريكا فوقع عليها الشيخ القرضاوي.

غير أن العلامة القرضاوي تراجع عن هذه الفتوى بل إنّه ضربها مثالًا ونموذجًا على الفتاوى الشاذة في كتابه “الفتاوى الشاذة” وبيّن أنّ الواقع صُوّر له على غير ما هو عليه في الحقيقة.

لهذا ينبغي عدم استحضار فتوى العلّامة القرضاوي التي تراجع عنها في هذه الحادثة أو الاستدلال بها على جواز مقاتلة المسلمين في صف الجيش الرّوسي كما يحاول البعض أن يفعل اليوم.

عودٌ على بدء؛ هذه المسألة شائكة، وتحتاج إلى نهوض المؤسسات المرجعيّة الشرعيّة للبتّ النّهائيّ فيها، ولئن قلتَ: فعلام تكتبُ فيها وهي تحتاج جهود المؤسسات؟ فالجواب بكلّ بساطة: هي مقاربةٌ واجتهاد عسى أن يكون فيه الخير، ولو سارعت المؤسسات المرجعيّة إلى التّبيين والتّبليغ لما كتَبنَا.

المصدر : الجزيرة مباشر