الصراع على رئاسة مصر «أبو غزالة» (2-6)

أبو غزالة ومبارك

كان مبارك، لا يحب من يعارضه، لكنه كان يكره من ينافسه أو يزاحمه‼، وأحسب أن مبارك لم يكره في حياته (قبل تولي الرئاسة) أكثر من كراهيته لمنصور حسن، الذي نافسه في أيام السادات الأخيرة، على موقع نائب الرئيس.

وأحسب أنه لم يكره في حياته (بعد تولي الرئاسة) أكثر من كراهيته غير المبررة للمشير عبد الحليم أبو غزالة، الذي لم يجاهر يومًا بمنافسة مبارك، لكنه لقى مصير المنافسين كلهم للرئيس مبارك من انتقام، وإقصاء، وتشويه.

أبو غزالة الذي يصغر مبارك سنًا بعامين (مواليد 15 يناير 1930) كان هو وكمال حسن علي من الأسماء المطروحة للتعيين بمنصب نائب رئيس الجمهورية (عسكري) حال استمرار الأزمة بين مبارك والسادات بسبب عزم السادات اختيار منصور حسن نائبًا مدنيًا لرئيس الجمهورية.

انبهار السادات

كان السادات منبهرًا بكاريزما أبو غزالة وشخصيته، الذي قام بترقيته خلال 24 شهرًا، من رئيس للمخابرات الحربية، إلى رئيس لأركان الجيش –خلفًا لخصم السادات أحمد بدوي– ثم وزيرًا للدفاع، وقائدًا عامًا للقوات المسلحة عام 1981.

ولعل هذا الصعود السريع في الترقي، كان سببًا لتوجّس مبارك المبكر، من أبو غزالة، خاصة أنه تميّز في تاريخه عن مبارك، بأنه كان من بين الضباط الأحرار، قبل 1952، وشارك في حرب فلسطين 1945، وهو طالب في الكلية الحربية، فضلًا أنه لم يكن طرفًا مباشرًا في هزيمة 1967، لوجوده في المنطقة الغربية.

تحمّل مبارك وجود أبو غزالة في موقعه، بعد أن ورثه عن السادات وزيرًا للدفاع، واستمر تحمّل مبارك لأبو غزالة قرابة ثمان سنوات، انتهت بعزله عام 1989 وسط شائعات وأكاذيب مهينة عن علاقته بإحدى السيدات (لوسي أرتين).

بينما الحقيقة، أن قرار إقالة أبو غزالة، اتخذ فعلًا منذ نجاحه يوم 25 فبراير 1986 في إخماد ثورة الأمن المركزي، وسيطرته الكاملة لمدة أسبوع على كل مرافق الدولة في مصر.

نصيحة شعراوي جمعة:

في ذلك الوقت تلقى مبارك نصيحة من أستاذه في الكلية الحربية، شعراوي جمعة، (وزير الداخلية في عهد عبد الناصر) أن يظهر في الأحداث، ولا يترك المشهد لأبو غزالة الذي تضاعفت شعبيته، عقب نجاحه في إدارة الأزمة، وإعادة السلطة لمبارك، الذي كان مختفيًا في بداية أزمة الأمن المركزي.

أسرار كثيرة لمؤامرات عديدة، تعرّض لها المشير أبو غزالة من 1986 حتى إقالته 1989، من بينها تسريب معلومات “استخباراتية” لأمريكا، عن دور أبو غزالة “الشخصي” في تهريب أجزاء تستخدم في صناعة الصواريخ، كذلك عن دور أبو غزالة عام 1987 في برنامج لتطوير الأسلحة بالتعاون مع الأرجنتين والعراق (برنامج كوندور)، وكان تمهيدًا لعزله خاصة مع تزايد شعبيته داخل الجيش وخارجه. 

وكما أشرت في مقالي السابق عن منصور حسن، وأول صراع مدني عسكري على كرسي الرئاسة، أني عرضت قبل ترشحي للرئاسة على منصور حسن وأبو غزالة أن يكون أحدهما هو مرشّح الحزب للانتخابات، إلا أنهما رفضا الفكرة من حيث المبدأ، لعدم رغبتهما في الصدام المباشر مع مبارك.

وفي اللقاء الوحيد الذي جمعني بأبو غزالة لهذا الغرض، استقبل الرجل عرضي بابتسامة عريضة، لا تخلو من الدهشة، وقال لي نصًا: لماذا تريد أن تزيح “كُهنه” وتأتي “بكُهنه” أخرى؟‼ في إشارة من الرجل الكبير قامة، هو تقريبًا في سن مبارك، وأننا يجب أن نركز على دور جيل آخر في حكم مصر.

يومها خرجت من اللقاء –الذي تم في سيارة– وقلت تصريحًا استغربه بعضهم وهو أني: “لست بأفضل من يحكم مصر‼ لكني قطعًا أفضل العشرة المرشحين للموقع، بما فيهم مبارك الأب والابن”.

ورغم قلة الاتصال وندرته بيني وبين المشير أبو غزالة، إلا أني أشهد أني لم أر أحدًا في حياتي لديه قدرة على الصمت البليغ، كما هو المشير عبد الحليم أبو غزالة ولأكثر من 19 عامًا، كظم فيها ألمه، ووجعه عن الناس، التي ظلت تحفظ للرجل الكثير، رغم غيابه وصمته الطويل.

لا أتحدث عن الكفاءة والعبقرية العسكرية للمشير أبو غزالة، فربما يكون ما ذكرته الموسوعات العسكرية كفيلًا بأن يعطي للرجل قدره المهني، ويسجّل له بُعد نظره ووطنيته وإخلاصه لوطنه.

كم كان امتناننا عظيمًا، لانحياز المشير أبو غزالة -بكل هيبته وجلاله- للدولة «المدنية» والشرعية.

كم كان تقديرنا لدوره في إخماد ثورة الأمن المركزي!! وقراره بالتدخل «المحدود» والانسحاب «السريع» لقواته، برئاسة اللواء ماجد الفار، لتعود إلى ثكناتها، لتغلق الأبواب أمام شكوك وهواجس فجّرتها ضخامة الحدث الجلل وخطورته!!

دونما تزيّد -لا محل له- كان الرجل شامخًا، وراقيًا، ومتحضرًا، وسياسيًا رغم عدم اشتغاله المباشر، أو انشغاله بطموح سياسي«!!».

الموقع المهجور

عندما خرج أبو غزالة من موقعه وزيرًا للدفاع، كانت التكهنات كلها والتوقعات ترشّحه أن يشغل موقع نائب رئيس الجمهورية، إلا أنه انتقل رسميًا لموقع «مهجور» لا وجود له في الدستور، أو هيكل مؤسسة الرئاسة، وهو موقع «مساعد» رئيس الجمهورية!!

بعضهم توقّع أن الطبيعة «الكاريزمية» للمشير أبو غزالة، قد تصنع اختصاصات للموقع المجهول، إلا أن هذا لم يحدث!! وظل المشير أبو غزالة يعيش في الظل ولقرابة عقدين من الزمان«!!».

وحاولت إقناع المشير أبو غزالة، في اللقاء الوحيد الذي تم بيننا، بأن ينشر مذكراته مستغلًا تجربتي السابقة في إقناع المشير الجمسي بنشر مذكراته، إبان عملي مديرًا إقليميًا لجريدة «الحياة» اللندنية، إلا أنه رفض النقاش في الموضوع، معتذرًا بأنه يفضّل الصمت «الآن»!! وأنه لا يحب أن يكون -بشخصه- مقامًا لكلام، أو موضوعًا لجدل!! أو سببًا في توتر«!!».

كررت المحاولة عندما بادرني باتصال معاتبًا على نشر خبر يتصل به في جريدة «الغد»، إلا أن المحاولة الثانية آلت للنتيجة ذاتها، التي آلت إليها المحاولة الأولى«!!».

رغم صمت أبو غزالة، وبعده عن الساحة السياسية، وعن العمل العام، فإن الرجل ظل دائمًا في دائرة اهتمام الناس، التي انتظرت منه أن يعود لدائرة الضوء، الذي ظل محجوبًا عنه، زاهدًا فيه، متعففًا عن أي محاولة لإثنائه عن موقفه.

رغم أنني شخصيًا، لا أذكر أن صادفت يومًا، شارعًا، أو زقاقًا، أو مدرسة، أو غيرها يحمل اسم المشير أبو غزالة -حتى في قريته بالبحيرة- فإنني أحسب أن هذا الاسم سيظل محفورًا في ذاكرة الناس محتفظًا بمكانة خاصة في نفوسهم!! رغم ما تعرّض له من محاولات ساذجة لتشويه صورته!!

لا أعرف لماذا أصر الرجل على الصمت، حتى آخر لحظة في حياته!! ولم أندهش عندما عرفت أن المرض اللعين الذي ألمّ به، أصاب حنجرته، وكأنه كان يعطينا الإشارة إلى «أن صمت المشير سيتحوّل إلى صمت أبدي طويل!!

(الأربعاء الحلقة الثالثة، عمرو موسى نموذجًا يؤكد أن التغيير لا يأتي من الداخل).

 

المصدر : الجزيرة مباشر