ذكرى الانقلاب الأشد خسة في تاريخ تركيا

قصة انقلاب قالوا سيستمر ألف عام!

فتح الله غولن

25 عامًا مضت على أهم انقلاب في تاريخ تركيا من حيث العبر والدروس، ذلك الانقلاب الذي قيل إنه سيترسّخ ويستمر لألف عام قادمة. وقد أظهرت أحداث السنوات الماضية خطورة ذلك الانقلاب وفداحته، وأهمية الدروس المستخلصة منه.

لم يستمر الانقلاب ألف عام كما أريد له، بل لم يصمد أكثر من خمس سنوات، ومع ذلك حاول بعضهم تكراره بعد 10 سنوات، وتحديدًا في يوم 27 أبريل/نيسان 2007، لكن بصورة مختلفة، عبر “المذكرة الإلكترونية” التي نشرها بعض قادة الجيش آنذاك، لكن هذه المحاولة فشلت أيضًا.

وبعد مرور 25 عامًا بات ذلك اليوم، أي يوم 28 فبراير/شباط 1997، ذكرى انقلاب لا يمكن لأحد أن يدافع عنه، فقد ترسّخ في الأذهان كجريمة كبرى وعار عظيم، وحقبة من أشد حقبنا ظلامًا.

بالتأكيد علينا أن نتذكر ذلك على الدوام، لأن ما عشناه بالأمس يكاد يُنسى اليوم ويُنسى معه أولئك الذين صفّقوا له ودعموه.

الانقلابات سيئة بطبيعتها، بغض النظر عمن يقوم بها وضد من. تاريخنا شهد العديد من الانقلابات. منذ الانكشاريين الذين اعتادوا على الانقلابات، ولم يجدوا صعوبة في خلق ذرائعها، حتى ولو كانت متناهية في السخافة.

أما في عهد الجمهورية فقد بدأ عهد الانقلابات مع انقلاب 27 مايو/أيار 1960 على الرئيس الراحل عدنان مندريس. لكن في الحقيقة ما حدث قبل ذلك التاريخ من إغلاق للحزب الجمهوري التقدمي تحت ذرائع متعددة، وكذلك إغلاق الحزب الجمهوري الحر، في السنوات الأولى من تأسيس الجمهورية التركية في الربع الأول من القرن الماضي، يعد الأساس الأول لعهد الوصاية التي جاءت الانقلابات ترسيخًا لها.

رغمًا عن الشعب لكن من أجل الشعب: الدافع الجاهز للانقلابات

إن حقبة الحزب الذي سارت وفق مفهوم “رغمًا عن الشعب لكن من أجل الشعب” متجاهلة صناديق الاقتراع من قبل الشعب ذاته، تعد الوجه الآخر للانقلابات وحكم الوصاية. فهي لم تقم وفق انقلاب عسكري في الظاهر، لكنها في الحقيقة انقلاب كونها تفرض حكمًا جبريًا ضد إرادة الشعب.

أما في انقلابات 9-12 مارس/آذار 1971، و12 سبتمبر/أيلول 1980، و28 فبراير/شباط 1997، فعلى الرغم من أن الجيش سلّم السلطة للمدنيين، لكن هذا لا يعني أن الانقلاب لم يكن هو الحاكم الفعلي والموجّه للسلطة. ما يخدعنا هنا هو أن الانقلابات التقليدية تحدث من قبل الجيش، لكن ومع ذلك فإن الجندي بحد ذاته لم يكن هو المبادر أو المستفيد من فكرة الانقلاب، بل الجهات التي تستثمر في الاقتصاد السياسي هي من تقف وراء الانقلابات وتحرّك بيادقها. ولا شك أن بعض أفراد الجيش والسلطة العسكرية مستفيدون من ذلك، لكن الفاعل الرئيس والأهم هم أصحاب المصلحة وبعض المنظمات غير الحكومية والبيروقراطية القضائية وإدارات الجامعات وكذلك الأحزاب السياسية التي فقدت أملها في الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع.

يقتصر دور الجندي هنا على الردع والتهديد، لكن الآخرين هم من يتولون المهمة الحقيقية. والجيش هو الخاسر الأكبر من هذه العملية، فمن خلال انشغاله عن الدور المنوط به، ينهمك في بسط السيطرة والهيمنة لدرجة أنه ينسى وظيفته الرئيسة تمامًا.

حينما تتحوّل وظيفة الجيش الرئيسة إلى التخطيط للانقلابات وتنفيذها، فلا يمكن توقع أي فائدة منه، سواء للبلد أو لمؤسسة الجيش ذاتها. ولهذا السبب عندما كانت القوات المسلحة التركية مشغولة بالانقلابات لم تتمكن من محاربة الإرهاب بشكل فعال داخل البلاد، ناهيك عن مواجهة التهديدات الخارجية، فضلًا عن الإهمال الذي يخيّم عليها، وسمعتها التي تتدهور في نظر الجمهور.

وفي المقابل، حينما عادت القوات المسلحة التركية لتولي زمام المبادرة في مهمتها الرئيسة ودورها الأصلي وتحررت من الانقلابات، نالت مكانتها الاستثنائية بين جيوش العالم.

ثقافة الإسلاموفوبيا

ما يميّز انقلاب 28 فبراير/شباط 1997 عن الانقلابات الأخرى، ليس فقط طابع “ما بعد الحداثة” كما يشير أصحاب هذا الانقلاب، لكن أيضًا الهوس الأيديولوجي والإسلاموفوبيا المتطرفة. وذلك تجلى بوضوح عبر ملاحقة مدبّري الانقلاب للحجاب والمؤسسات التعليمية الإسلامية والجمعيات وشتى المؤسسات ومنظمات المجتمع المدني، فضلًا عن الرموز الدينية والخطاب الإسلامي، فيما بدا موقفًا معاديًا للإسلام دون تردد.

ولم يكن مدبرو الانقلاب عابئين بحيازة شرعية من قبل الشعب أو بتسويق سياستهم في نظر الشعب التركي المسلم. فهم يعلمون أنهم لو أقدموا على ذلك فسيضطرون للحوار والنقاش مع هذا الشعب، وبالتالي ربما يسفر ذلك عن مراجعة لمواقفهم أو تقديم تنازلات. ولذلك لم يهتموا بمشاعر هذا الشعب المسلم.

لقد أظهروا في تلك المرحلة عداء غير مسبوق للحجاب، عداء غير قابل للجدل أو التفاوض، فضلًا عن العديد من الممارسات المندرجة تحت “عداء الإسلام”، وهي ممارسات لو حدثت اليوم ليس في تركيا بل في الولايات المتحدة وأوربا وأي مكان آخر في العالم لوصفت بأنها ممارسات معادية للإسلام.

 

إن طموحات مدبري انقلاب 28 فبراير/شباط في التمكين لمشروعهم لألف عام قادمة، واستئصال المؤسسات التعليمية الإسلامية، لا تعكس في الواقع سوى جهلهم فقط. فبهذا التفكير أظهروا مدى تدني وعيهم بالتاريخ والعالم.

بينما كشف يوم 28 فبراير/شباط عن الموقف المعادي للدين في تركيا، كان لا بد من وقوع محاولات انقلابية أخرى في 17 ديسمبر/كانون الأول 2013، و15 يوليو/تموز 2016، لنكتشف أن مديري الأمن التابعين لمنظمة غولن الإرهابية هم أنفسهم من كانوا وراء عمليات خلق تصورات وانطباعات ما بعد الحداثة. كان من المعلوم أن منظمة غولن الإرهابية كانت المستفيد الأكبر من انقلاب 28 فبراير/شباط على الرغم من مواقفه جميعها المناهضة للدين، ولقد لعبوا على هذه النقطة بالتحديد كاستثمار مهم للغاية بالنسبة لهم كجماعة دينية مزعومة حصلت على ميزات بضوء أخضر من الانقلابيين.

ادعاء الألفية بعد السُّكْر بسلطة انقلاب 28 فبراير/شباط

إلى جانب ظلمهم وخروجهم على القانون، هناك ضعف آخر ميّز أصحاب انقلاب 28 فبراير/شباط على غرار أسلافهم، حيث اعتقدوا بعد أن سكروا بخمر السلطة أنه بمقدورهم الهيمنة على كل من المجتمع والتاريخ عبر رؤية ضيقة.

بيد أن التاريخ والمجتمع على حد سواء يعطيان الدرس اللازم لكل من أسكرته السلطة وفكّر بسطحية. فعلى الرغم من أنهم اتخذوا الإجراءات كافة التي ظنوها كفيلة بمنع وصول “أعدائهم” إلى السلطة، فوجئوا بأن “أعداءهم” وصلوا إلى السلطة أبكر بكثير مما توقعوه، ولا يزالون فيها حتى اليوم.

في الحقيقة، لقد رسموا مسار هزيمتهم وأفول عهدهم في ذلك اليوم.

تركوا وراءهم تجربة استثنائية مليئة بالدروس والعبر. تجربة تلخّص الإنسان بكل تقلباته، بشجاعته وجهله، بشرفه وبؤسه، بكرامته وذله، بسعادته وتعاسته.

سيبقى يوم 28 فبراير/شباط على الدوام اختبارًا يمكن للمرء مواجهته.

المصدر : الجزيرة مباشر