العقل السياسي.. أبرز الغائبين في غزو أوكرانيا

بوتين

ساهمت الظروف الحالية التي بدأت مع الغزو الروسي لأوكرانيا في إبراز حقيقة وطبيعة العلاقات الدولية التي غالبا ما يكتنفها نوع من الأسطورة أو الخيال.

يعتقد الناس في المجمل أن الحسابات القوية والعقلانية والواقعية هي التي توجه جميع مواقف الأطراف في العلاقات الدولية. ولو صح ذلك، لما اندلعت الحروب والصراعات لحل القضايا العالقة بين الدول والتكتلات.

للدول مصالح، وأحيانًا تنشأ هذه المصالح من خلال تقاسم الموارد المشتركة مع دول مجاورة. حينما تسفر الاتفاقات عن تقاسم عادل دون طمع، فإن التصرف العقلاني من أجل سلام أكثر ديمومة يكون سيد الموقف. لكن المفهوم الخطير الذي يسود في المجمل هو “الطمع” الذي لا يجتمع مع العقل في آن واحد. وحينما تدخل القوة والقومية والحماسة الوطنية على الخط، فإنها تلعب دورًا في إثارة السلوك البعيد عن العقل.

بالطبع لا يمكن للعقل أن يكون معطلًا بشكل تام في العلاقات الدولية، لكن في معظم الأحيان تكون العواطف والشخصيات والأشخاص هي التي تحسم المواقف وتحدد اتجاهها. فكما أن الشخصيات الثقافية لبعض البلدان لها دور مؤثر، فإن الشخصيات التي تحكم تلك البلدان يمكن أن تضيف لهذه البلدان الكثير أو تأخذ منها الكثير كذلك. فلا حساب محددا لمعادلة التأثير التبادلي هنا، فتارة يكون إيجابيًّا وتارة يكون سلبيًّا.

ما نراه في الهجوم الروسي على أوكرانيا هو تصرفات غير عقلانية مشحونة بالعاطفة. والصورة الآن تشير لحالة مذهلة من الصدمة وعدم الاستعداد، لدرجة تصل فيها لحد الفوضى وعدم الانضباط، على عكس ما كان يُعتقد قبل الهجوم. حالة من عدم الجاهزية تشبه تلك التي كانت مع جائحة كورونا.

إن المقاربة التي نراها إزاء موجات الهجرة من أوكرانيا تفوق بكثير ما حصل إزاء موجات هجرة السوريين، ليس لأنها عقلانية بل لأنها عنصرية وعاطفية. وهذا يكشف عن جانب عاطفي كبير للغاية يقف وراء الكيان العقلاني “المذهل” لأوروبا.

يمكن التوقع بأن تتصرف روسيا بطريقة أكثر عقلانية وحكمة، حين اتخاذ الخطوة الأولى التي لم تكن بحسبان أحد. لكن مع ذلك فإن ما جرى ولا يزال حتى الآن من تطورات يُظهر أن الحسابات الروسية التي أعدت سابقًا بعيدة عن واقع المشهد.

الحسابات الروسية

المقاومة التي لم يكن يتوقعها الروس في أوكرانيا، والمدة الزمنية التي تقترب الآن من شهر على بدء الاحتلال الذي كان من المخطط له أن ينتهي في غضون أيام، يشيران إلى أن الحسابات الروسية لم تكن صحيحة تمامًا. في الواقع كلما طال أمد الحرب فإن التكاليف التي تتحملها روسيا ستزيد.

اعتقد بوتين أن الشعب في أوكرانيا سيرحب بغزاته ويحتفل على غرار ما جرى في العراق مع الاحتلال الأمريكي. حتى أولئك الذين دعمهم الروس في بعض المناطق وأعدهم لمثل هذه اللحظة، لم يتمكنوا من تقديم الدعم ذاته لروسيا حين إعلان غزوها، واتحد الشعب الأوكراني على قلب رجل واحد في مشهد يبدو تعبئة عامة ضد المحتل.

وبطريقة لم يتوقعها الروس على الإطلاق، أوجد الاحتلال هوية أوكرانية وعززها ودعّمها، وهذا المشهد في حد ذاته يكفي لدحض الرواية الروسية التي قالت إن الأوكران لا يملكون هوية مستقلة، وهو ما اتخذه بوتين حجة لتشريع غزوه لهذا البلد.

أقل ما يمكن قوله هو أن روسيا أمام واقع لم يكن بحسبانها في الحقيقة.

فهناك شعب أوكراني وهوية أوكرانية يقاتلان في خندق واحد أمام أعين العالم كله في معركة حياة أو موت. في الأصل تتشكل الهويات الوطنية داخل التاريخ، لكن لا يبقى أيّ منها إلى الأبد. الحقيقة اليوم تثبت وجود شعب أوكراني بغض النظر عن أصوله، وقد عزز الغزو الروسي هذه الهوية الوطنية للشعب الأوكراني أكثر من أي وقت مضى.

أمام هذه الحقيقة الاجتماعية تتجلى خيبة أمل روسيا أكثر فأكثر، ومن المحتمل جدًّا أن تنعكس هذه الخيبة على آلة الحرب الروسية لإحداث أضرار تفوق ما سبق. لكن أي شيء ترتكبه عبر فورة الغضب هذه سيعود بالأثر السلبي على روسيا نفسها بدرجة أكبر.

أصبحت روسيا بالفعل أكثر عزلة على مستوى عالمي، فالعقوبات تحاصرها وتجرها إلى انغلاق كبير كما كان في زمن الاتحاد السوفيتي. فالإغلاق الأكبر في ذلك الوقت أنتج توازنه الخاص حسب شروط تلك المرحلة المختلفة عن عالم اليوم، ومن المؤكد أن مثل هذا الإغلاق اليوم لن يكون دائمًا بالنسبة لروسيا.

روسيا اليوم لديها شعب عاش الديناميكية ورفاهية الطبقة الوسطى، حتى ولو استطاعت كاريزما بوتين ودعايته للغرور الوطني أن تضفي دعمًا ما على الغزو في المرحلة الأولى، فإن الخطابات البطولية الوطنية تلك لها قدرة محدودة على تحمل هذا النوع من المغامرات.

زعامة أردوغان

في خضم هذه المرحلة أظهر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الواقع أنه زعيم يعرف ما يفعله أكثر من أي أحد، ويدير المرحلة بخبرة وحس سليم أفضل من أي أحد، فقد توقع ذلك وعبر عنه بوضوح منتصف يناير/ كانون الثاني الماضي. فقد أكد أنه لا ينظر لأي هجوم روسي محتمل (في ذلك الوقت) على أوكرانيا على أنه نهج واقعي، مشيرًا إلى أن “روسيا لو أقدمت على هذه الخطوة في الوضع الحالي، فإنها بقدر ما ستضر بأوكرانيا، ستضر نفسها أيضًا لكن بشكل أكبر”. وبكشف هذا الحساب الواقعي بكل أبعاده حذر روسيا من اتخاذ خطوة من هذا النوع.

هل يمكن أن نعتقد إذن أن ما يراه أردوغان لا يراه بوتين؟ التجربة تقول: نعم، قد لا يكون قادرًا على رؤية هذه الحقيقة الواضحة.

على أي حال، العلاقات الدولية ليست سوى مستوى آخر من العلاقات الشخصية. وهذا المستوى ليس بدعًا من طبيعة العلاقات الإنسانية بطريقة ما. فالعواطف والاستياء والكرامة الوطنية والإثارة والغطرسة والجشع والغفلة والبدعة، كلها سمات وعواطف تتشابك في هذه العلاقات.

وفي هذا المستوى يتصرف كل شخص وفقًا لشخصيته. أوروبا تتصرف وفقًا لطبعها الخاص، وكذلك الولايات المتحدة وروسيا وتركيا إلخ.

لكن في نهاية المطاف، كل مقارنة اليوم تُظهر أن تركيا هي الفاعل الأكثر حكمة وعقلانية في هذه المرحلة، فقد أبقت قناة مفتوحة يمكن أن تسفر عن حل لهذه الحرب يصبّ في صالح العالم بأسره.

المصدر : الجزيرة مباشر