الحنين إلى الحكم الملكي .. من “حضّر العفريت”؟!

الملك أحمد فؤاد وعائلته في شوارع القاهرة الفاطمية

لم تكن زيارة آخر ملوك مصر أحمد فؤاد الثاني (70 عامًا) إلى القاهرة في الأسبوع الأول من شهر مارس/آذار، هي الأولى، فقد سبقتها زيارات عدة منذ أعاد إليه الرئيس السادات جواز سفره حاملا لقب ملك سابق، ولكنها كانت الزيارة الأكثر دفئًا له ولأسرته، والأكثر جذبًا لعواطف المصريين في ما بدا “نوستالجيا ملكية”، أي الحنين إلى العهد أو الحكم الملكي الذي بدأ رسميًّا عام 1922 وإن كان امتدادًا لحكم أسرة محمد علي الذي بدأ منذ العام 1805.

ولم تكن زيارة الملك السابق سرّية، بل كانت علنية، وبرعاية رسمية من السلطات المصرية التي وفرت له حراسة خاصة خلال تحركاته، كما فتحت له متاحفها، وعلى رأسها قصر عابدين الذي وُلِد فيه، وحكم فيه مصر طفلًا (5 أشهر) تحت الوصاية لمدة عام، وأذنت لرؤساء تلك المتاحف والمزارات السياحية لاستقباله، بل إن القوات الجوية المصرية كرّمته، وكان التكريم الأثير إلى نفسه هو تكريم جمعية الكشافة المصرية على المسرح اليوناني بنادي الجزيرة، ذلك أنه جمع بين الطابعين الرسمي والشعبي بحضور ممثل لوزير الشباب، مع تهافت رواد النادي من أبناء الطبقة الثرية وشباب وفتيات الكشافة المصريين لالتقاط الصور مع الملك وأسرته، وهو ما تكرر في زياراته إلى المناطق الأثرية الأخرى في مناظر لن ينساها الرجل بقية حياته، وربما أيقظت داخله هو شخصيًّا حلمًا كان قد مات بالعودة يومًا إلى حكم مصر.

للتاريخ أكثر من وجه

هل كان ذلك التسابق من المصريين لالتقاط الصور والسلام على الملك ومرافقيه هو محض مجاملة روتينية، أم فضولًا شعبويًّا، أم إنه كان حنينًا حقيقيًّا لتلك الحقبة بعد الذي عاشوه في ظل الحكم العسكري على مدى 60 عامًا؟

يحار المصريون في فهم تاريخهم الحديث، فالعهد الملكي الذي يمثل امتدادًا لحكم أسرة محمد علي، يتم تقديمه في مناهج التعليم المصرية بوصفه عهدًا أسود، عانى فيه المصريون من حكم تلك الأسرة التي استعبدتهم وأذلتهم، وضيّقت عليهم أرزاقهم، وتسببت في احتلال بلدهم، وفوق كل ذلك فقد كانت تلك الأسرة نفسها غير مصرية، ولا يتحدث حكامها وأفرادها اللغة العربية، ولا يعيشون حياة المصريين، بينما يجد المصريون في مراجع تاريخية أخرى مستقلة صورة مختلفة عمّا درسوه في مدارسهم، فقد عاشت مصر تحت الحكم الملكي في ظل ديمقراطية تحلم برُبعها الآن، وكان الجنيه المصري يتجاوز في قيمته الجنيه الإسترليني، وكانت مصر تُسمّى “هوليود الشرق”، وكانت ثاني دولة في العالم تمتلك خطوط سكك حديدية، وكانت دائنة لبريطانيا العظمى، كما كانت تضم إحدى أنشط خمس بورصات عالمية (بورصة الإسكندرية)، وكان ميزانها التجاري يحقق فائضًا سنويًّا من تصدير محصول القطن وغيره.

ليس الغرض ممّا سبق هو الانتصار للملكية أو مناهضتها، ولكنه إبراز لجانب ظل مخفيًّا بفعل فاعل من الصورة الكاملة لمصر التي جمعت الغنى إلى جانب الفقر، والجهل إلى جانب العلم، والحرية إلى جانب العبودية. لم يعد المصريون أسرى وجهة نظر واحدة ظلت تفرض الرواية الرسمية على مدى ستين عامًا، وقد ساعدهم على الخروج من ذلك الأسْر تنوّع مصادر المعرفة، وسهولة الوصول إليها عبر الإنترنت الذي لا يكاد يخلو منه بيت في مصر الآن، وعبر الكتب والروايات والأفلام والمسلسلات التي تتناول تاريخ مصر الحديث والمعاصر من زوايا مختلفة.

تكرار ظهور العَلم الملكي

في الأيام الأولى لثورة يناير 2011، ظهر على استحياء العَلم الملكي، ذو اللون الأخضر والهلال (رمزًا للإسلام) والنجوم الثلاثة؛ رمزًا لوحدة المملكة المصرية (مصر- النوبة- السودان”، وظهرت نقاشات متفرقة عن النظام الملكي بديلًا للحكم العسكري الذي قامت ضده الثورة، لكن تلك النقاشات لم تصمد طويلًا، ثم عاد الحنين إلى العَلم الملكي مؤخرًا من قبل بعض الناشطين السياسيين الذين يعدّونه بديلًا مناسبًا للعَلم الحالي الذي يمثل الحكم العسكري.

تبدو حالة الحنين إلى الحكم الملكي محض رد فعل على قسوة الحكم العسكري الذي يحاول إقناع المصريين بأنه قدَر مقدور عليهم، لا فكاك لهم منه، ولذلك فهم مستعدون لقبول عودة الملكية، فهي بنظرهم -ورغم كل سوءاتها- أفضل من حُكم يصف نفسه بأنه جمهوري، بينما يتعامل كنظام ملكي يسعى لتوريث الحكم للأبناء إذا وجد إلى ذلك سبيلًا، وقد وصف عالم الاجتماع السياسي المصري الدكتور سعد الدين إبراهيم تلك النظم بـ”الجملوكية” أي التي تجمع بين الملكية والجمهورية.

لم تكن السلطات المصرية لتسمح للملك السابق بهذه الزيارة لولا اطمئنانها الكامل لموت حلمه في الحكم مجددًا، وهو الذي تجاوز السبعين عامًا، وعبّر عن موقفه أكثر من مرة وبأكثر من طريقة، لكن مشاهد الحفاوة التي قوبل بها من طوائف الشعب المختلفة -سواء من أبناء النخب الثرية والمثقفة في نادي الجزيرة، أو من الفئات الشعبية في حي الحسين وغيره من المناطق التاريخية التي زارها- قد تحيي الحلم ربما لدى أبنائه الأمراء (محمد علي وفوزية ولطيفة وفخر الدين). والمشكلة أن هؤلاء على عكس أبيهم لا يتحدثون اللغة العربية ولو في حدها الأدنى، وإن كان تعلُّم اللغة العربية أمرًا ميسورًا حال توافر الإرادة لديهم، وفي تلك الحالة فإن النظام الحالي يكون كمن “حضّر العفريت”، وليس معروفًا كيف سيصرفه!!

المصدر : الجزيرة مباشر