من يريد أن يسيطر على موانئ السودان؟

حميدتي في زيارته الأخيرة للإمارات مع بن زايد

عندما تقوم بجولة في منطقة ساحل شرق السودان، وتتأمل حال الميناء الرئيسي في بورتسودان، على بعد 680 كيلومترًا شمال شرق الخرطوم، وتفشّي الفقر والأمراض، والنزعة الإثنية التي طغت مؤخرًا، وغياب السلطة المركزية، والحاجة الماسة لتطويع المكان للحياة، سوف تستشعر مخاطر جمّة تحدق بهذا الإقليم ذي الأهمية الاستراتيجية البالغة، وربما تستشعر مخاطر أخرى خبيئة بدأت بالفعل قطم قطعة عزيزة من أرض السودان.

المطامع الخارجية

يضُمّ شرق السودان ثلاث ولايات، البحر الأحمر، كسلا، القضارف، وهي منطقة غنية بالموارد الزراعية والنفطية والمعدنية أيضا، كالذهب واليورانيم، إلى جانب الموانئ الرئيسية، التي تخدم أربع دول غير مُشاطئة، تُعرف بالدولة المُغلقَة، إثيوبيا، أفريقيا الوسطى، تشاد، جنوب السودان، مما يجعل هذا الميناء الذي ينفتح على الحركة التجارية مع الصين وأوربا في مرمى حركة السباق العالمي والإقليمي.

شرق السودان منطقة استراتيجية تحدها إريتريا ومصر وإثيوبيا، وتطل على المملكة العربية السعودية، وبعض الموانئ المهمة، ويمتد ساحلها على البحر الأحمر بطول 714 كلم، وهذا ربما يكون أحد عوامل الصراع حولها، وبروز المطامع الخارجية، أما الأطراف الداخلية فما هي إلا أدوات لذلك الصراع المتفجر.

البيع الرخيص

وبما أن لكل صراع دوافع سياسية واقتصادية وأدوات فاعلة على الأرض، فإننا نحتاج إلى أن نحدد بالضبط دوافع ذلك الصراع، والقوى المتقاتلة للسيطرة على موانئ شرق السودان، وهو أمر لم يعد خافيًا؛ إذ إن روسيا والصين تقفان على جانب، والولايات المتحدة وإسرائيل تقفان على الجانب الآخر، في ذات الوقت تسعى شركة موانئ دبي العالمية لضم هذا الميناء بأيّ ثمن، وتحاول الضغط على البرهان وحميدتي لاستكمال الصفقة. وسبق لموانئ دبي أن سعت قبل أعوام لتوقيع عقد امتياز مدته 20 عامًا في مرفأ الحاويات الجنوبي، كما طلبت من هيئة الموانئ البحرية تسليمها إدارة الميناء بالكامل، إلا أن الهيئة رفضت ذلك واقترحت عليها مناصفة الإدارة مع الشركة الفليبينية، لكن موانئ دبي رفضت العرض حينها ثم سعت له مجددًا، وبدا أن سيطرة قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو على هذا الملف مؤخرًا، وزياراته التي قام بها لميناء بورتسودان بحجة تطويره ومعالجة المشاكل، لها علاقة بخطوة مقبلة تتمثل في دخول شريك خارجي يبتلع هذا الميناء، عوض الدخول في شراكة عادلة ومدروسة تحفظ للسودان سيادته على المطارات والموانئ، وتضمن في الوقت نفسه وضع ميناء بورتسودان على طريق الحداثة والإدارة بالنظم الجديدة الفاعلة تحت ولاية وطنية.

كما أن غياب المجلس التشريعي الذي يعبر عن إرادة الشعب، وعدم وجود رؤية واضحة لتطوير الميناء، والفوضى الأمنية والاقتصادية التي يعاني منها السودان سوف تسهل عملية التخلص من هذا الميناء، ولو عبر صفقة سرية رخيصة يفاجأ بها الناس في يوم من الأيام، بعد أن تكون الفأس وقعت في الرأس. وهو مشهد لعله قريب مما حدث مع البطل عثمان دقنة أحد أبرز قادة الثورة المهدية في شرق السودان، عندما وشى به صديقه وقاد الإنجليز إلى مخبئه، فنظر إليه عثمان دقنة وهو يرسف في الأغلال وقال له عبارته الشهيرة: “لعلك ما بعتني بالرخيص؟”.

أمن البحر الأحمر

ليست الصين وحدها التي تسللت عبر شركة هاربر من باب توسعة محطات الحاويات، وإنما توجد شركة هامبورغ الاستشارية الألمانية التي تعمل على تطوير أنظمة الموانئ السودانية، وسبق للخرطوم إبان عهد البشير أن أطلقت مباحثات مع الحكومة القطرية لإنشاء أكبر ميناء للحاويات على ساحل البحر الأحمر، لكن منافسا آخر له نفوذ أكبر عرقل تلك الصفقة المهمة، وسعى بالمقابل إلى عرقلة المشروع التركي لتطوير مدينة سواكن، وإعادة ترميمها على الطراز العثماني الإسلامي، كما كانت من قبل.

لا يمكننا تجاهل إرتيريا التي تنظُر إلى شرق السودان باعتباره امتدادًا حيويا لها، بحكم التداخل السكاني، وبحكم الرؤية الاستراتيجية لأسياس أفورقي ومن خلفه تل أبيب بالطبع، في التوسع والمناورة. أما روسيا فهي تسعى بكل قوتها للحصول على قاعدة بحرية في الساحل السوداني، من أجل توسيع نفوذها العسكري ومنح أسطولها البحري امتيازات جديدة بعد السيطرة على قاعدة طرطوس في سوريا، وقد أبدى حميدتي بعد زيارته لموسكو موافقة مبدئية على قيام تلك القاعدة، مما أزعج مصر والسعودية على وجه الخصوص، وصدر عنهما بيان مشترك يتحدث عن أمن البحر الأحمر من دون أن يتحدث عن روسيا بشكلٍ مباشر.

عزل الموانئ

ميناء بورتسودان بوضعه الحالي لم يعد قادرًا على استيعاب السفن الكبيرة، ورغم وجود 6 موانئ سودانية متخصصة على البحر الأحمر، فإنها جميعها تفتقر إلى الكفاءة، وفي حاجة إلى خطة تتطلع إلى المستقبل، دون خصخصتها وتشريد العمال، وخلق أزمة أخرى. كما أن إغلاق الموانئ من قبل المجلس الأعلى لنظارات البجا تسبّب في إتلاف برمجة تشغيل “الكرينات” والآليات، وجعل الشركات السودانية تبحث عن موانئ بديلة للتصدير والاستيراد، علاوة على تكدس الحوايات والمشاكل الإدارية المتناسلة، وكثير من الأزمات المصطنعة تشير إلى أصابع خارجية تعمل على عزل تلك الموانئ والسيطرة عليها في خطوة لاحقة.

لا شك أن خلق الأزمات الاقتصادية والأمنية وتشديد الحصار على السودان، خطوة لخنق البلاد حتى تبيع كل شيء قابل للبيع، بما في ذلك المواقع الحيوية، ومن ثم شراء سماسرة ووكلاء بالداخل يزينون الصفقات العابرة للقارات، ويجعلون من الموانئ سلعة في بازار العرض والطلب، بعدها يظهر التاجر الحقيقي بربطة عنق، أو ببزة عسكرية، وينتزع أعز ما يملكه السودان.

المصدر : الجزيرة مباشر