الحرب الأوكرانية بريئة من هبوط الجنيه المصري

لم تكن رحلة انخفاض الجنيه المصري التي بدأت أمس مفاجئة على الإطلاق، فقد سبقتها توقعات للعديد من الخبراء وبيوت الخبرة الدولية والمحلية، التي أجمعت على أن العملة المصرية مقومة بأكثر من قيمتها وفقا للأوضاع الحقيقية للاقتصاد المصري التي يعكسها عجز الميزان التجاري والموازنة العامة وفداحة أقساط وفوائد الديون الخارجية التي كبلت بها السلطة المصرية نفسها والشعب المصري لعدة عقود قادمة.

وبداية يجب التأكيد على أن الحرب الروسية على أوكرانيا والتداعيات الاقتصادية لانتشار فيروس كورونا لم تكونا السبب الرئيس لهشاشة الاقتصاد المصري أو الأزمة الحالية التي يمر بها الجنيه، وعلى أقصى تقدير يمكن القول إنهما عجلتا بظهور نتائج الممارسات العشوائية للسلطة المصرية طيلة السنوات الثماني الماضية.

ففيروس كورونا والحرب لم يتسببا في الإفراط في الاقتراض الخارجي، ولا في الإنفاق على مشروعات ضعيفة أو عديمة الجدوى الاقتصادية، ولا في الإسراف على حفلات المومياوات والكباش، ولا في إهدار المال على استضافة آلاف الشباب في مؤتمرات زائفة على حساب الشعب المطحون، ولا في استضافة محافل رياضية قارية وعالمية تكلف المليارات دون عوائد تذكر كما يحدث في كل دول العالم.

كما أنهما لم يتسببا في نهم السلطة في الإنفاق على أفعل التفضيل، فذاك البرج الأعلى في أفريقيا، وذلك المسجد الأكبر والكنيسة الكبرى في مصر، وتلك دار الأوبرا التي تضاهي أوبرا فيينا في الديكورات والفخامة، وهذا مطار العاصمة الجديد الذي يبعد 80 كيلومترا فقط عن خمسة مطارات قائمة بالفعل، وفي الطريق مدينة الألعاب الأولمبية التي تستعد للمنافسة في استضافة الأولمبياد بعد 15 عاما قادمة، في نفس الوقت الذي تتجاهل فيه السلطات تساقط المصريين أسفل خط الفقر.

الجنيه الضحية

الجنيه المصري باختصار ضحية للسياسات الاقتصادية الفاشلة التي أهملت الإنتاج وركزت على توزيع المغانم لاسترضاء الجهات السيادية التي تركت وظائفها الرئيسية وافتتحت دكاكين للمقاولات التي تسند إليها بالأمر المباشر، وضحية كذلك لإسناد المناصب الكبرى لأصحاب الحظوة عند الأجهزة الأمنية وللذين يصفقون لأي قرارات تهبط عليهم باعتبار أنها توجهات استراتيجية للدولة لا يمكن مراجعتها.

كما أن الجنيه المصري ضحية افتراس الشركات الحكومية الخدمية للمواطنين، فشركتا المياه والكهرباء تمتصّان أموال المواطنين بفواتير وممارسات مشبوهة، لتعظيم أرباحهما ومرتبات كبار موظفيهما، وتكتفي الحكومة بدور المتفرج المستفيد من دخول تلك الأموال للخزانة العامة، وهي تعلم أن تكميش الاستهلاك المحلي يثبط الاستثمار وفرص العمل ويزيد من حالة الركود التي يعانيها الاقتصاد المصري منذ سنوات.

الجنيه المصري ضحية للاعتماد المفرط على الأموال الساخنة كعماد رئيس في الحفاظ على قيمته منذ بداية برنامج صندوق النقد الدولي نهاية عام 2016، وهي الأموال التي اقتنصت أعلى معدل فائدة إيجابي في العالم طيلة السنوات الخمس الماضية، ثم قفزت إلى الخارج مرة مع بداية أزمة كورونا وأخرى مع بداية الحرب على أوكرانيا، وللأسف أهملت السلطة تغريمها بأي تكلفة ضريبية أو حتى رفع سعر الصرف عليها قبل الهروب.

الجنيه المصري ضحية وزارة المالية التي نفذت تعليمات صندوق النقد الدولي بإفقار وتجويع المصريين، فرفعت الدعم عن المحروقات والكهرباء، ورفعت أسعار المواصلات العامة ورسوم الخدمات الحكومية، لتتباهى أمام صندوق النقد بخفض العجز الأولي للموازنة، كما تعمدت وضع سعر بعيد تماما عن الواقع في الموازنة الحالية لكل من القمح (255 دولارا للطن) والنفط (60 دولارا للبرميل) في محاولة لاسترضاء الصندوق والتهرب من دفع سعر مجزٍ يشجّع المزارع البسيط على الاستمرار في زراعة القمح.

الجنيه المصري ضحية الفشل في تنمية القدرات الإنتاجية للبلاد على المستويين الصناعي والزراعي، وخير مثال على ذلك فشل استراتيجية صناعة السيارات في مصر بعد أكثر من ثلاث سنوات من تدشينها والاحتفاء بها، ليعقبها فشل آخر في تصنيع السيارة الكهربائية بعد هرب الشركة الصينية التي تعاقدت معها وزارة الصناعة، والتي حرص وزير الصناعة على التقاط الصور التذكارية معها في كل مرحلة منذ المناقشات الأولية حتى قيادته لنموذج السيارة، ولكن اهتمامه بالتصوير أنساه إبرام عقد ملزم مع الشركة، التي هربت في النهاية ولم يكلف الوزير نفسه إعلان أسباب هروبها، وحتى محطة الطاقة الشمسية الكبرى في العالم فإن تكلفة إنتاج كيلووات الكهرباء منها تقارب ضعف تكلفة نظيره في العالم.

الجنيه المصري ضحية تطفيش المستثمرين الأجانب نتيجة للقبضة الأمنية وتحكمها في الأراضي والتراخيص والتصدير والاستيراد، وصعوبات أداء الأعمال، وسياسات إفقار المواطن التي خفضت الاستهلاك المحلي، وإهمال التعليم بكافة أنواعه خاصة التعليم الفني، حتى وصل الأمر إلى أن يسمح قانون الاستثمار الحالي في دولة تشكو سلطتها من ارتفاع الكثافة السكانية باستقدام 10% من العمالة من الخارج.

الجنيه المصري ضحية الفساد وانعدام الشفافية وتغييب الإحصاءات المتعلقة بالاقتصاد الوطني، فأرقام الدين العام لم تعلن منذ ما يزيد على سنة وأوشكت أرقام الدين الخارجي على الاحتفال بعيد ميلاد إخفائها الأول، وحتى إحصاءات تخارج الأموال الساخنة نتلقفها من المصادر الأجنبية، وأصبحت نشرات الاستدانة بالسندات الحكومية المصرية في الأسواق الدولية مصدرا هاما لتحديث البيانات خاصة فيما يتعلق باستحقاقات الديون الخارجية.

فقاعة التماسك الظاهري

الحرب على أوكرانيا بريئة من هبوط الجنيه المصري الذي هو مقدمة لعدة انخفاضات مؤلمة متوقعة قادمة لا محالة، قد نختلف في توقيتها ومقدارها، ولكن لا نختلف أبدا في وقوعها، فمقدمات السياسات الاقتصادية المصرية من المنطقي أن توصل الشعب إلى هذه النتائج؛ ففقاعة التماسك الظاهري الهشّ للمؤشرات الاقتصادية وللجنيه المصري كانت جاهزة للانفجار منذ سنوات، وللأسف فالمواطن البسيط هو الذي سيدفع الثمن.

أجهزت روشتة صندوق النقد الدولي على المواطن المصري في أعقاب التخفيض الأول للجنيه، وساهمت السياسات الحكومية في استنزافه في ظل عدم القدرة على خلق البدائل وتنمية القدرات لرفع مستويات الدخول بما يتناسب مع ارتفاع الأسعار، واليوم مع بداية الانخفاض الجديد للجنيه لا بد أن يعي الجميع أن الفئة العريضة من المصريين لم يعد بإمكانهم التحمل أكثر من ذلك وأن على المسؤولين أن يتحملوا مسؤولياتهم تجاه الوطن والمواطنين.

المصدر : الجزيرة مباشر