ما لا يمكن لروسيا أن تتسامح بشأنه.. ماذا بعد اندلاع الحرب؟

هل نستطيع أن نقول إنّ الله يهيئ الأرض لفرصة تغييرية كبيرة؟!

بوتين

في كتابه الشهير “الأعوام المائة القادمة” تنَبَّأَ جورج فريدمان عالم السياسة الأمريكي بتجدد الصراع بين روسيا والغرب بعد عام 2020م، ولم يأت ذلك التوقع منه على وجه الخرص والتخمين، وإنّما جاء مبنيًّا على استقراء تاريخ الصراع وقوانينه، فمن أهم القوانين التي أشار إليها أنّ الصراع إذا احتدم حول قضية متعلقة بـ”الجيوسياسي” ثم أُغْلِق دون أن يُحْسَمَ فإنّه يومَ أن تتهيأ الظروف لِتَجَدُّدِهِ وإحيائه لن يتردّد. وقد خصص الكاتب الأمريكي الفصل السادس من كتابه لهذه النبوءة تحت هذا العنوان المثير “إعادة الكَرَّة”، إشارةً منه إلى أنّ سؤال “الجيوسياسي” الذي لم تحسمه الحروب الكبرى التي تكررت بدءا من الحرب النابليونية ومرورا بالحربين العالميتين وانتهاءً بالحرب الباردة يعود ليطرح نفسه من جديد: ما هو الوضع الجيوسياسي اللائق بمكانة روسيا الاتحادية بالنسبة إلى أوربا والغرب؟ وما شكل علاقتها بدول الجوار في الشرق الأوربيّ، الذي يُعَدُّ -رغم انسياب سهوبه- الخط الفاصل بينها وبين غريمها “الناتو”؟

وهناك هاجس آخر سوى الهاجس الجيوسياسي -تحدث عنه الكتاب- وهو الرعب الديموغرافي الذي يطارد روسيا؛ فعدد سكان روسيا يتراجع بشكل رهيب، إضافة إلى أنّ نسبة الروس الأصليين من هذا العدد المتراجع أصلا قياسا بنسبة العرقيات الأخرى في الداخل الروسي في تراجع مستمر ومقلق، وهذا يشكل بالنسبة لروسيا الشاسعة خطرا على أمنها القوميّ يستوجب السعي لتغطيته عبر خلق نطاقات آمنة حول حدودها، ولاسيما من جهة الغرب حيث تهديد العدو التقليدي.

بوصلة التوقعات

وبرغم أنّ بوصلة التوقعات لدى الكاتب والسياسي الأمريكي قد انحرفت بعض الشيء؛ حيث مالت إلى بعض المجاملة لمستقبل أمريكا، بما يمثل مخالفة لأغلب التوقعات التي أدلى بها كثيرون من أمثال “جوزيف ناي” و”نيال فرجسون” بل و”فرنسيس فوكوياما” بعد تحوله عن بدعة “نهاية التاريخ” عقب خروج أمريكا ذلك الخروج المهين من أفغانستان، برغم ذلك فالرجل يبدو أنّه دقيق للغاية في توقعاته المبنية على استقراء الواقع والتاريخ وفي تحليل خلفيات التدافع الجيوسياسي في المنطقة، وفي التنبؤ بمآلات الصراع في مرحلة العشرينيات من هذا القرن.

فبعد أن وجه اللوم لأمريكا والناتو على تركهم روسيا تتعافى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، بين الدوافع الروسية التي تبرر شنّها حربا وقائية تتلافى بها هجمات محتملة، قائلا: “لا توجد في تلك السهوب سوى قلة قليلة من الموانع الطبيعية التي قد تعيق شن مثل تلك الهجمات، وحتى لو مدت روسيا حدودها الغربية وصولا إلى ألمانيا، فإنّ ذلك لن يوفر لروسيا الحائط المنيع الذي قد تستند إليه دفاعا عن نفسها، الميزة الوحيدة التي قد تفيد منها روسيا هي التوغل في العمق، فكلما توغلت روسيا غربا في العمق الأوربيّ اتسع نطاق حدودها وازدادت المسافة التي يتعين على الغزاة قطعها كي يصلوا إلى تخوم موسكو”.

ثم يفسر بموضوعية ذلك الموقف الروسي قائلا: “فما لا يمكن لروسيا أن تتسامح بشأنه أو تتقبله هو وجود حدود متشابكة من دون أن تكون هناك مناطق عازلة تفصل بين تلك الحدود، خصوصا إذا كان جيرانها الأوربيون متحدين ضدها، ولهذا ستبدو أفعال روسيا في المستقبل عدوانية، لكنها في واقع الأمر دفاعية محضة” وهذا تقريبا ما بدى واضحا في الخطاب الروسي وفي التحليلات المعاصرة للحدث.

وفي المقابل يكشف عن الملابسات على الجانب الأوربي الغربي، التي لا تقل تعقيدا عن تلك التي تلهب الحمية الروسية، فيقول: “فالولايات المتحدة التي دائما ما تكون موغلة في عدوانيتها من وجهة النظر الأوربية، ستثير مشكلات غير ضرورية في أوربا الشرقية كتهديد للروس… فبولندا المحشورة ضمن جدران كابوسها التاريخيّ المتمثل في سندان ألمانيا ومطرقة روسيا ستصبح أكثر اعتمادا على الولايات المتحدة، أمّا الولايات المتحدة التي تلحظ وجود فرصة قليلة الكلفة لتحجيم الروس وشق أوربا إلى نصفين وإضعاف الاتحاد الأوربي في غضون ذلك، فسوف تزيد من دعمها لدول شرق أوربا”.

لكنّ روسيا التي يبدو أنّ اندفاعها واستبدادها بالقرار سيحقق لها كسبا أوليا -على الأقل على المستوى المعنويّ- سوف يتراجع موقفها أمام اتساع المخاوف الأوربية، يقول الكاتب: “فالقوة العسكرية الروسية سوف تدفع ثمنا باهظا في مواجهة ثلة من القوة العسكرية الأمريكية التي تقرر الولايات المتحدة نشرها ردا على التحركات الروسية، وبغض النظر عما يمكن لبقية دول أوربا أن تفعله، فإنّ بولندا وجمهورية التشيك وهنغاريا ورومانيا ملتزمة بمقاومة أيّ مد روسيّ باتجاهها، وستكون مستعدة لعقد أية صفقة تقبلها الولايات المتحدة من أجل الحصول على دعمها في مواجهة الروس”.

كارثة وشيكة

نستطيع أن نقول -بعدما سمعنا خطاب بوتين وعايَنَّا ما يتمتع به من استبداد مَرَضِيٍّ كبير- إنّ هذه المقدمات التي بسطها بالأمس “جورج فريدمان” في كتابه ذاك، تؤول إلى كارثة حقيقية وشيكة، هذه الكارثة الوشيكة أول سيناريو من السيناريوهات التي وضعها اليوم “توماس فريدمان” الصحفيّ الأمريكي الشهير في النيويورك تايمز بتاريخ 1/3/2022م، بعد أن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا، ولعل الرعب الذي سيطر على توماس أشد من ذاك الذي سيطر على جورج؛ لكون المعاينة والمعايشة أقوى دلالة من الحسابات الاستقرائية، ولسبب آخر هو هاجس النووي الذي خيم على المشاعر بعد أن حشدت روسيا ما حشدت على الحدود الأوكرانية، وبعد التصريحات “البوتينية” الجنونية.

والثابت المحكم الذي لا يرتاب فيه عاقل هو أنّ العالم يتغير، وأنّ المنظومة العالمية سيصيبها التصدع والانهيار، والمرجّح بدرجة كبيرة أنّ هذا التغيير الكبير الذي يقبل عليه الكوكب الأرضيّ سيوفر هامشا حقيقيا لكل الدول المستضعفة؛ لتتحرر -إن شاءت- من التبعية، كما سيوفر للشعوب المقهورة فرصا للتحرر من أنظمة تأبى إلا أن تظل دائرة في فلك العبودية للغرب؛ ذلك لأنّه ليس أضرّ على الناس من التواطؤ بين قوى الشر ضد المستضعفين؛ فإذا ابتليت القوى المتواطئة بصراع يستنزف طاقاتها ويستهلك مكرها وتدبيرها كان ذلك الصراع بابا واسعا للتحرر والانطلاق؛ لذلك رأينا بعض المفكرين مثل فريد زكريا في كتابه “مستقبل الحرية”، رأيناهم يضعون تفسيرا مقبولا لمبادرة غرب أوربا إلى الثورة قبل شرقها، حيث رَدُّوا هذه الظاهرة إلى أنّ الكنيسة الغربية -خلافا للشرقية- نازعت القصر السلطان على الخلق، فكان النزاع الدائم بين السلطتين الدينية والزمنية بمثابة الثغرة العبقرية التي انفلتت منها أول شرارة للثورات.

فهل نستطيع أن نقول إنّ الله يهيّئ الأرض لفرصة تغييرية كبيرة، كتلك التي تهيأت للأمة الإسلامية في مهد قيامها، بإغراء فارس بالروم والروم بفارس في حربين وقعتا في بضع سنين، وكانت كافية لميلاد الدولة في المدينة والانطلاقة الوثابة التي حققت المعجزات؟

لا ريب أنّ سورة الروم كانت تقرر سنة ماضية: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)} (الروم: 1-7).

المصدر : الجزيرة مباشر