القيم الغربية الهابطة في حرب روسيا ـ أوكرانيا.. مقدمة خراب العمران

الصحفي فيليب كورب

سيادة القيم الإنسانية وعدم تجزُّئها أو اطّرادها مما يُبقي الأمم، ويديم سلطانها، ويعزز قوتها وقدرتها على الحكم والامتداد، وإذا كان ابن خلدون -عالم العمران المعروف- قد أناط العمران بالعدل، وخرابه بالظلم، فله حديث كذلك عن القيم يدل على المعادلة نفسها، وهو أن “الشوكة” وحدها لا تكفي لبقاء الحكم والعمران والدول والحضارات ما لم تكن محفوفة بالقيم الأصيلة والأخلاق الإنسانية النبيلة.

وفي الحرب الروسية – الأوكرانية الدائرة اليوم، تجلت فيها المبادئ الغربية كما لم تتجلَّ من قبل أو كما تجلت من قبل كما هي عادتهم فيها بما يناقض تمامًا ويخالف قيمنا الإسلامية الحضارية حين ساد الإسلام وحكم المسلمون، حيث سمحوا لكل المِلل والنِّحَل أن يتعايشوا، وأفسحوا المجال للجميع، إسهامًا في بناء حضارة إنسانية تتميز بالقيم الثابتة والمقاصد الحاضنة والأخلاق السمحاء، فما أحرى المسلمين بقول الشاعر الأيوبي الحيص بيص:

مَلكْنا فكانَ العفوُ منّا سَجيَّةً ** فلمّا مَلكْتُمْ سالَ بالدمِ أبْطَحُ

وحَلَّلْتُمُ قتلَ الأسارى وطالَما ** غَدوْنا عن الأسْرى نَعفُّ ونصفحُ

فحسْبُكُمُ هذا التفاوتُ بينَنا ** وكلُّ إناءٍ بالذي فيهِ يَنضَحُ

أين القيم الهابطة في هذه الحرب؟

منذ أن بدأت الحرب الروسية – الأوكرانية وتصريحات قادة الغرب تشهد على هذا التناقض والتجزؤ وعدم الاطّراد في القيم والأخلاق، ففي الوقت الذي كانت فيه روسيا تعربد في سوريا وتقتل الأطفال والشيوخ والنساء، وتهدم البنية التحتية لمجتمع ذي تاريخ وحضارة، لم ينبس هذا “الغرب” وقتها ببنت شفة بل تآمر على هؤلاء الضحايا وهذا الخراب، وذهب ليصِف من ينضم إلى المجاهدين على أرض سوريا بالإرهاب والداعشية والعدوانية، وترك الغرب كل الإجرام وذهب يصب جام غضبه على من يقاوم الاحتلال، ويجاهد الإجرام واصفًا إياه بالإرهاب والداعشية!

لكن حين بدأت الحرب الروسية الأوكرانية وجدنا تصريحات صادمة من قادة الغرب وأركان إعلامييه وصحفييه وكتّابه وقادة الرأي فيه تدل بشكل واضح على ازدواج المعايير الأخلاقية والقيم الإنسانية التي يُفصِّلونها فقط على مقاسهم وعلى مواطنيهم أما بقية الشعوب فلا بواكي لهم!

فهذا نائب المدعي العام الأوكراني السابق ديفيد ساكفاريليدزي الذي قال ضمن تصريحاته “إنه أمر مؤثر للغاية بالنسبة لي لأنني أرى الأوربيين ذوي الشعر الأشقر والعيون الزرقاء يُقتلون كل يوم بصواريخ بوتين وطائراته الهليكوبتر وصواريخه”.

وقال رئيس الوزراء البلغاري “هؤلاء ليسوا اللاجئين الذين اعتدنا عليهم، إنهم أوربيون وأذكياء ومتعلمون وبعضهم مبرمجون لتكنولوجيا المعلومات، هذه ليست موجة اللاجئين المعتادة للأشخاص الذين ليس لديهم ماضٍ مجهول، ولا يوجد بلد أوربي يخاف عليهم. أنا لست مندهشًا، أنا غاضب فقط”.

وقال عضو الجمعية الوطنية الفرنسية جان لويس بورلانج “إن اللاجئين الأوكرانيين سيكونون هجرة ذات نوعية عالية، ومثقفين، وسنكون قادرين على الاستفادة منهم”.

أما الصحفي فيليب كورب على قناة (BFM) الأكثر مشاهدة في فرنسا، فقال بفجاجة لا يُحسد عليها “نحن لا نتحدث هنا عن فرار السوريين من قصف النظام السوري المدعوم من بوتين، نحن نتحدث عن الأوربيين الذين يغادرون في سيارات تشبه سياراتنا”!!

هذا التصريحات المقيتة تدل دلالة قاطعة على ثقافة الغرب التي عششت في عقول مثقفيه وكتّابه وقادته، بما يجعلهم يرون أنفسهم هم الناس، وغيرهم من الشعوب هوامًا وحشرات لا قيمة لها، رغم القيمة الكونية للهوام والحشرات!

دلالات هذه التصريحات ومستقبلها

هذه التصريحات كما أسلفنا القول عن ابن خلدون وغيره أن الأمم والشعوب والحضارات لا تقوم على الشوكة الاقتصادية والعسكرية فقط، وإنما أيضًا على القيم الإنسانية والأخلاق النبيلة التي يجب أن تطّرد وتعلو على الجميع وللجميع بلا تفرقة بين شرق وغرب، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين صاحب عيون زرقاء أو خضراء أو سوداء، ولا بين شعر أبيض وأسود، فالناس جميعًا لآدم، وآدم من تراب.

بكل اطمئنان نقول إن هذا الغرب في أفول وإلى زوال، فهذه سنن الزوال للأمم والحضارات، وقد تنبأ كثير من مفكري الغرب بهذا، وألّف الكاتب اليميني الجمهوري باتريك بيوكانن كتابًا بعنوان (موت الغرب) صدر في عام 2001 وتُرجم إلى العربية عام 2005، وهذا مؤذِن بزوال هذه الحاضرة التي بات يُطلق عليها “القارة العجوز”! فما أحراهم بقول أمير الشعراء أحمد شوقي:

وإذا أُصيبَ القومُ في أخلاقِهِم ** فأقِمْ عليهم مأتمًا وعويلا

واجب أصحاب الحضارة الإنسانية

لعلّ في هذا درسًا بليغًا للمنبهرين بالغرب من أبناء بني علمان وغيرهم ممن لم يروا التقدم إلا في الانسلاك في ثقافة الغرب والجري وراء حضارتهم، وتقليدهم تقليد القردة في كل خير وشر، وأن الفلاح كل الفلاح في اتباعهم، والتخلف والبوار كله في خلافهم!

أما المسلمون أصحاب أعظم حضارة وأرقى تاريخ، فالواجب عليهم الآن أن يبنوا مشروعهم، ويمتلكوا أدوات بناء دولتهم: فكريًّا وسياسيًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا وتكنولوجيًّا وتعليميًّا وتربويًّا، فقد آن الأوان بعد هذا السقوط الأخلاقي، والازدواج في القيم والمعايير، والظلم المتفشي الواقع من الحضارة الغربية على البشرية.. أن يقوم المسلمون قومتهم وينهضوا نهضتهم ويستعيدوا مجدهم، ليضربوا المثل من جديد في أن المسلمين إذا حكموا استوعبوا وحشدوا الناس في سياق واحد على اختلاف مِللهم ونِحَلهم؛ فلا تمييز ولا عنصرية، وإنما الرحمة العامة والبناء الفاعل والإنسانية الباهرة، ولَتعْلمُنَّ نبأه بعد حين!

المصدر : الجزيرة مباشر