غزو أوكرانيا.. لماذا يبدو الناتو بهذه الهشاشة؟

الغرب المترهل لم ينتبه للقوة الروسية المتصاعدة.. فقد كان مشغولا بالحرب مع الإسلام السياسي

بوتين

اندلعت الحرب في شرق أوربا كما أشارت إليه كل التوقعات والحسابات، ولم يعبأ بوتين بكل التحذيرات، ولا العقوبات، ولا التهديدات التي كانت تنهال عليه يوميا من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بصرامة تلك العقوبات وقسوتها، وكأنها تتحدث مع رئيس من دول العالم الثالث يعيش على فضل المعونات التي تقدمها إليه.

أدار ظهره لكل هذا الهراء كما أسماه من قبل، وطالب بالرد الفوري كتابيا على التعهد بعدم دخول أوكرانيا حلف الناتو، وبعودة الأمور إلى ما كانت عليه في دول الاتحاد السوفيتي السابق قبل 2007. كان حازما قاطعا بإعلانه الحرب ـإذا لم يتلق الضمانات الكافية، فالأمن الروسي أصبح مهددا بشكل مباشر بعد أن وقف الناتو على عتبات بيته.

من المتسبب في الحرب؟

السؤال العادل والمنطقي هو من المتسبب في هذه الحرب إذن؟ هل هو خطأ الولايات المتحدة والأوربيين الغربيين؟ أم هو خطأ بوتين المتهم بإعادة إحياء الإمبراطورية الروسية؟

لا يمكن أبدا الإجابة عن مثل هذا السؤال دون دراسة مواقف كل هؤلاء. فالصراع قديم، والهيمنة كما علمنا التاريخ هي منطق القوي الذي يتطلع إلى بسط نفوذه على الضعيف، لهذا ومنذ أن تفكك الاتحاد السوفيتي القديم لم تتأخر الولايات المتحدة، وأعضاء الناتو الذين تمتعوا بالقوة المنفردة بالعالم في التمدد شرقًا، ودخلت كل دول حلف وارسو الموالية للاتحاد السوفيتي السابق إلى حلف الناتو، وهي رومانيا، وتشيكوسلوفاكيا، وبلغاريا، وكوراتيا، والجبل الأسود، والمجر، وبولندا، ودول البلطيق الثلاث.

هنا نكتشف في خطاب بوتين الذي ألقاه قبل يومين من اندلاع الحرب أنه كان واضحا وصريحا عندما قال: ما كان ينبغي لجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق أن تستقل لولا تخاذل القيادة السوفيتية آنذاك، وكما نعرف فإن غورباتشوف المدعوم من الغرب وقتها قام بإرساء سياسة “البيروسترويكا” التي اتخذها منهاجا للإصلاح، فحل الاتحاد السوفيتي وسط دعم وتصفيق غربي غير مسبوق، وانتهى به الأمر إلى تقديم إعلانات لسلسلة محلات بيتزا هوت الأمريكية!

منذ أن اعتلى بوتن سدة الحكم أعاد تضميد الجراح بشكل صامت، وركز على إعادة بناء مفاصل القوة في الجيش الروسي، وأعاد التسليح الحديث، ولم يتوقف عن استعراض قوته والتذكير بأمجاد الاتحاد السوفيتي السابق في مناسبات الثورة الروسية، لكن الغرب المترهل لم ينتبه للقوة الروسية المتصاعدة، فقد كان مشغولا بالحرب مع الإسلام السياسي، وهل المسلمون جزء من أوربا أم لا؟! ودخل في حروب عبثية عديدة، وظهر أكثر الترهل الغربي في انقسام أوربا الحاد أمام مشكلة بضعة آلاف من اللاجئين، والتخبط المستمر، ورفض التوزيع العادل للاجئين على الدول بسبب أهداف سياسية وانتخابية.

من هو العدو الصين أم روسيا؟

في سنة 2019 في مؤتمر ميونيخ للأمن الذي يعقد سنويا لدول الناتو والولايات المتحدة لمناقشة أمن أوربا تم استبعاد روسيا لأول مرة من أن تكون عدوًّا لأوربا وأمريكا، وتمت تسمية الصين على أنها العدوّ الأول. فقد كانت الحرب الاقتصادية الصينية الأمريكية على أشدها، وحتى الآن لا يزال هنا كثيرون في أوربا يعتقدون أن الصين هي العدو وليست روسيا. كل هذا ولم ينتبه الغرب إلى ما يدور في ذهن الثعلب الروسي الماكر،  وها هي أوربا وأمريكا ما زالت منشغلة في مباحثات عقيمة في فيينا مع إيران من أجل توقيع اتفاق جديد بعد أن ألغى ترامب الاتفاقية الموقعة معها في فترة حكم أوباما، أما إنجلترا التي تهدد وتتوعد روسيا اليوم فكانت قد خرجت من الاتحاد الأوربي وتركته وحيدا، وأما فرنسا فقد سحبت منها أمريكا صفقة الغواصات التي وقعتها مع أستراليا، وهو ما جعل ماكرون يخرج عن صوابه ويصف ذلك بأنه “خيانة!!”، حتى إن أنجيلا ميركل آخر حكماء أوربا كانت قد استنفدت فترة حكمها وخرجت إلى التقاعد.

هنا حانت الفرصة المناسبة للدبّ الروسي المتأهب دائما لقفزة جديدة، بعد أن نفد صبره، فقد حذر سنة 2007 من توسع الناتو المتاخم لحدوده دون جدوى، وفي سنة 2014 ضم جزيرة القرم حتى لا يتم إغلاق البحر الأسود أمام أسطوله البحري ومنعه من الوصول إلى المياه الدافئة، كل ذلك والغرب منهمك في مشاغله الداخلية، لهذا نفد صبر بوتين وأصبح متيقنا من أن أوربا لا تملك قرارها السياسي، والقرار السياسي في واشنطن فهي حامي حمى الديار الأوربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أما أوربا فقد فشلت في أن يكون لها جيشها الموحد الذي  يمكن أن يتدخل في الصرعات الدولية بمعزل عن الولايات المتحدة، وكان هناك مشروع فرنسي ألماني بهذا الخصوص لكنه لم يكتمل.

أوربا تعاقب نفسها

أوربا ليست مستفيدة من تلك الحرب فهي أول الخاسرين، مثلا قرار المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز بوقف مشروع الغاز “نورد ستيرم 2” الممدود إلى ألمانيا وأوربا هو عقوبة ليست لروسيا وحدها بل أيضا لألمانيا وأوربا، فهو جاء وفقًا للضغوط الأمريكية رغم أهميته القصوى لألمانيا المتعطشة للغاز، فكان من المرجح أن يمد ألمانيا بنسبة 70% من احتياجاتها، ومن المعروف أن روسيا هي ثاني أكبر منتج للغاز في العالم وتمد أوربا بـ40% من احتياجاتها، لكن مصالح الولايات المتحدة المهيمنة على أوربا لا تتفق مع تلك السياسة التي قد تحول روسيا إلى المتحكم الأول في أوربا، رغم نفي بوتين مرارا وتكرارا تحويل الغاز من مشروع تجاري إلى مشروع سياسي.

قال بوتين في خطابه التاريخي الذي سبق قرار الحرب بساعات إنه لا يثق بالغرب، بل قال إن الغرب لم يهتم بأمننا مطلقا “وبصق علينا”. وكان بوتين قد ظهر محبطًا من الغرب الذي لا يتخذ قرارا بمعزل عن أمريكا، مع أن سياسة أوربا الأمنية تحتّم العمل معًا ولا تتم بمعزل عن روسيا، ويجب أن تؤخذ في الاعتبار مخاوف روسيا وطمأنتها في إطار أمن القارة الأوربية.

علي كل الأحوال فتلك الحرب ليست من مصلحة شعوب العالم على الإطلاق، لكنها سياسيا سيتمخض عنها نوع جديد من القوى الجديدة، ولن يكون هناك القطب الواحد المتمثل في أمريكا وحدها، التي لم تنجح طوال ثلاثة عقود من الهيمنة في إرساء الديمقراطية في أي بلد، ولا في إزاحة أي دكتاتور عن مقعده،  بل تفاقمت مشاكل العالم، واندلعت الحروب في أكثر من مكان، لهذا ستعود كثير من الدول الصغيرة التي تحتاج الحماية إلى السير في فلك روسيا من جديد، وعندها سيفيق الغرب وأمريكا من السبات العميق، وتتجدد المنافسة على ضم دول العالم لكلا المعسكرين مع الأخذ في الاعتبار طبعا أن هناك فوائد ستعود على تلك الدول من السير في فلكهما كما كان يحدث في الماضي!!

المصدر : الجزيرة مباشر