الليلة التي أيقظت فيها الرئيس

 دم بديع في رقبة الجميع

د. محمد بديع

قبل فجر الجمعة 14 ديسمبر/كانون الأول 2012، دق جرس هاتفي بإلحاح، كان رقمًا غير مسجل، وعندما أعدت الاتصال به، كان المتحدث على الجانب الآخر ضابطًا طبيبًا، كان يلازمني يومين أسبوعيًّا أثناء اعتقالي في سجن مزرعة طرة.

قال الضابط بعبارات برقية قصيرة “الرئيس مبارك (المعزول) يقيم في الغرفة التي كنت تقيم فيها، وانزلق قدمه في ذات الحمام الذي كنت تستخدمه، وأصيب بشج في رأسه وبعض الكدمات والسجحات في صدره، والرجل يتألم بشدة، مما يغلب معه احتمال إصابته بكسور أو شروخ داخلية في الحوض، وليس لدينا جهاز أشعة (إكس راي) يمكّننا من التشخيص”.

سألت الضابط “هل أبلغت جهة الإدارة؟” فقال “أبلغت ضابط عظيم المنطقة المركزية والإدارة الطبية بمصلحة السجون، لكن حتى الآن لم يصلني قرار، وربما يتأخر أكثر مما يحتمل الموقف، مما يحتاج تدخلًا سياسيًّا عاجلًا.

حاولت الاتصال بوزير الداخلية اللواء أحمد جمال الدين، إلا أن هاتفه لم يجب، فلم أتردد لحظة في الاتصال بالرئيس محمد مرسي في هذا التوقيت المتأخر جدًّا، لكن الدكتور مرسي أجاب فورًا، واستجاب لطلبي قبل الإفصاح عنه، بمجرد أن رويت له ما حدث، فأمر بإرسال جهاز أشعة “محمول” من أحد المراكز الخاصة، تمهيدًا لنقل مبارك إلى مستشفى إذا اقتضى الأمر.

حقًّا، من ذاق مرارة الظلم هو الأقدر على إدراك أن الموقف الإنساني أكبر من أي خلاف سياسي أو شخصي.

تذكرت تلك الواقعة اليوم، وأنا أقرأ تدوينة ضُحى محمد بديع، ابنة المرشد العام لجماعة الإخوان، التي كشفت فيها إصابة والدها (80 عامًا) بفيروس كورونا، وهو ممنوع من الزيارة منذ خمس سنوات، ولا سبيل لمساعدته أو الاطمئنان عليه.

وقالت ضُحى في ختام تدوينتها “قلوبنا أنهكها الألم والقهر والعجز، مالنا غيرك يا الله”.

لا أفهم سببًا واحدًا يمنع نظامًا يدّعي أنه في أوج قوته، أن يعالج شيخًا في مطلع العقد التاسع من عمره، أو يسمح لأسرته بزيارته والاطمئنان عليه!!

لا أفهم سببًا أمنيًّا أو قانونيًّا يمنع الدكتور محمد محيي الدين -أو محمد أكسجين- من الخروج ساعة لتشييع والدته ثم العودة إلى حبسه الاحتياطي الذي تجاوز المدة القانونية.

لا أفهم لماذا يسود منطق “اللامنطق” في التعامل مع سجناء الرأي تحديدًا، وجميعهم من النخب والمثقفين، وليسوا من عُتاة الإجرام.

قائمة الممنوعات

وبوصفي سجينًا ومعتقلًا سياسيًّا سابقًا، مرات عدة وفي عصور مختلفة، أحسب أن قائمة الممنوعات المطبّقة على المعتقل والسجين السياسي هى من إبداعات أبو علي منصور، ابن العزيز بالله نزار، ابن القائم بأمر الله، ابن المهدي عبيد الله، الملقب “الحاكم بأمر الله” الذي حرّم أكل القلقاس، وجرّم احتساء الملوخية و”المتوكلية” على سكان الظاهر والأزبكية!!

الممنوعات والمحظورات لا ينظمها القانون 396 لسنة 1956 المعروف بقانون السجون، ولا تحددها اللائحة التنفيذية رقم 79 لسنة 1968، بل يحددها ويفرضها خيال مريض، كالذي فرض قوانين “حامورابي”، ومحظورات الحاكم بأمر الله.

وأحسب أن الأخطر من قائمة الممنوعات، هي أسباب المنع المأساوية والهزلية، خذ أمثلة:

  • ممنوع دخول الأدوية، والسبب أن السجين قد يستخدمها في الانتحار!!
  • ممنوع دخول المبيدات والمعقمات، لأنه يمكن تحويلها إلى مشروبات “روحية”!!
  • ممنوع دخول الملاعق والشوك، بوصفها من أسلحة الدمار الشامل التي لا يجوز أن تكون في أيدي أعداء الوطن، أو مشروعًا محتملًا لرماح أو نصال!!
  • ممنوع دخول الملابس الملونة، لأنها قد تساعد على الهرب!!
  • ممنوع دخول الأحزمة الجلدية، لأن عشرات منها قد يصلح وسيلة لتسلق الأسوار!!

فأر في زنزانتي

زارني مرة في زنزانتي “فأر” ثقيل الوزن والدم، لديه موهبة (أولمبية) في سرعة الجري والقفز، كان يتعامل بثقة بالغة في النفس، لأنه يعرف أن قائمة المحظورات والممنوعات السجنية “العبيطة” تشمل سم الفئران بوصفه مادة كيماوية، والمصائد بوصفها علبًا حديدية!!

أوقِفوا هذا “العبَط” أولًا قبل أن تغيّروا اسم قطاع السجون إلى قطاع الحماية المجتمعية، فتغيير الكتابة على علبة الملح بوضع كلمة “سكر” لن يحوّل الملح إلى سكر!!

القانون والشرع والأخلاق تمنع التنكيل بالسجناء، أو منع زيارتهم، وتمنع وضعهم في حبس انفرادي، كعقوبة دائمة وتحظره نهائيًّا على من تجاوز 60 عامًا.

فهل يوجد في مصر الآن من يستطيع إيقاظ الرئيس، ويخبره بأن شيخًا ثمانينيًّا وأستاذًا جامعيًّا يموت وحيدًا من المرض في سجنه، وأن دمه في رقبة الجميع؟!

كما قالت ضُحى “ما لنا غيرك يا الله”.

المصدر : الجزيرة مباشر