معركة المستشفى ومواقع التواصل.. بين الحقيقة والتضليل!

 

لست في وارد الدفاع عن الضابط الطيار وعائلته الذين ظهروا في فيديو على فيسبوك قبل أيام وهم في معركة داخل مستشفى بمصر.

الضابط وعائلته صاروا متهمين شعبيا بأنهم اعتدوا بالضرب على ممرضات وعمال في المستشفى.

وقبل أسابيع، أصبح محل كشري شهير في القاهرة متهما بطرد عامل نظافة ومنعه من تناول وجبته على إحدى طاولات المحل.

العاطفة والعقل

في الواقعتين انفعل الرأي العام سريعا مع طرفين فيهما قبل التثّبت من الحقيقة، العاطفة تتغلب على العقل أحيانا، لهذا نظام العدالة النزيهة لا يحتكم إلى العواطف أبدا، إنما طريقه الوحيد الدليل اليقيني والعقل المجرد من المشاعر.

في واقعة عامل النظافة، اتضح تدريجيا أن الحقيقة لم تكن مكتملة، وما جرى لم يكن دقيقا، والطرد لم يتم من المحل لأنه عامل نظافة، مثلما أن مواطنة مسيحية ادعت أن المحل نفسه رفض بيع وجبة كشري لها في رمضان الماضي بحجة الصيام، ثم يظهر تضليل عامل النظافة وركوبه موجة الشهرة المزيفة، والنفاق الرخيص الذي مارسه لصالحه أشخاص باحثون عن دور أو يسعون إلى الظهور كما لو كانوا دعاة ومصلحين اجتماعيين، كما استبان أن المحل يبيع الكشري عندما يفتح أبوابه قبل إفطار الصائمين لكل الزبائن ولا يمنع أن يشتري أحد ما يريد دون النظر إلى هويته الدينية، ومصر لا تعرف التصنيفات في البيع والشراء والتعامل بين الناس.

دولة القانون

والتحقيقات ستكشف حقيقة موقعة المستشفى، وكما كان تقديري أن هناك حلقة مفقودة في فيديو عامل النظافة لهذا لم أقتنع بما قاله ولا بشلال العواطف الذي أثير بشأنه، فإن هناك حلقة مفقودة في فيديو المستشفى، ولذلك وصفت ما شاهدته بأنه مهزلة، ودعوت إلى استجلاء الأمر، وشددت على ضرورة وجود دولة القانون الصارمة التي تنطبق على الجميع.

ضحايا وجناة

لماذا لم أقتنع بأن الممرضات ضحايا بالمطلق، وأن الضابط وعائلته جناة بالمطلق؟

لأنني أعلم أحوال المستشفيات العامة وما يجري في الاستقبال والطوارئ وفي مختلف أقسامها.

ودون إسهاب في الشرح، يمكنك أن تتصور أي شيء إلا أن تكون هذه مستشفيات، وأن تكون هذه طواقم العاملين فيها، وخاصة التمريض والإداريين والعمال، أما هيئة الأطباء فإن الصغار منهم يعانون، والكبار يمرحون في المستشفيات الخاصة وعياداتهم المسائية.

الحقيقة المُرّة أنها مستشفيات بائسة، وأن منظومة الصحة والعاملين فيها لا يستحقون مواصلة عملهم طالما هم على هذا النمط، فالمستشفيات والمدارس ومختلف المرافق العامة الخدمية وغير الخدمية تسودها الفوضى والتسيب والإهمال والمعاملة الجافة مع المترددين عليها.

نحن في مرحلة شديدة الإزعاج من تفشي الفساد الإداري والقيمي والأخلاقي وهو أخطر من الفساد المالي، يمكن محاصرة وعلاج الفساد المالي، أما الإنسان الذي فقد إنسانيته وجديته وضميره وروحه فإن إصلاحه ليس سهلا.

التأني قبل الإدانة

عندما تقرأ أو تشاهد أن شخصا ما اشتبك مع عامل في مصلحة ما فيُرجى ألا تتسرع في إدانته حتى لو كان هناك فيديو بالواقعة، فما يسبق الفيديو قد يكون دافعا بما يجعل الشخص يخرج عن طوره ويفعل ما فعل.

وأنا لا أبرر خرق القانون والضوابط والنظام العام، إنما في الوقت ذاته لست مع التعامل القاسي مع المراجعين وأصحاب الحاجات في مختلف المصالح، فهذا المواطن هو دافع الضرائب، وممول رواتب ومكافآت وامتيازات العاملين في الجهاز الحكومي والخدمات العامة، ولهذا يجب أن يكون كل العاملين في الدولة في خدمته وراحته.

وتقديري أن ما حصل مع عائلة الضابط كان فوق الاحتمال، فقد تم تحويلهم من عيادة خاصة لطبيبة تعمل في المستشفى نفسه، والمريضة في حمل مجهري، وتنزف، وجرى التعامل معها بنوع من البلادة وعدم تقدير خطورة الحالة، ويتبين من الهيئة الاجتماعية للعائلة أنهم ليسوا من النوع الذي يفتعل المشاكل، وابنتهم طبيبة في المستشفى ذاته، وعهدنا بضباط الجيش أنهم محترمون، وضباط الطيران عينة خاصة من العسكريين، واحتكاكهم بالناس محدود، وكنت قريبا منهم خلال خدمتي بالجيش، ولم أجد منهم شيئا مسيئا.

الصحافة ومواقع التواصل

لم تكن الصحافة التقليدية (الورقية) ولا الجديدة (الإلكترونية) وراء تفجير الموضوعين، إنما أحد مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديدا فيسبوك، وهو الموقع الأكثر شيوعا في مصر.

الصحافة تتراجع، ومواقع التواصل تصعد وتؤثر سواء كان بالإيجاب أو السلب، فهى قادرة على الوصول السريع جدا إلى الملايين خلال زمن قياسي، وهي نافذة التنفس الوحيدة المتاحة اليوم في ظل تقييد الحريات وإحكام السيطرة على وسائل الإعلام من صحافة وإذاعة وتلفزيون والمواقع والمنصات والبوابات الإلكترونية التابعة لها أو القائمة بذاتها.

واليوم ينقلب الوضع، ويصبح الإعلام بكل ما كان له من تاريخ وتأثير ونفوذ هو من يجري وراء مواقع التواصل وينقل عنها بعض ما تنشره، كما حصل مؤخرا في واقعتي المستشفى ومحل الكشري.

المسؤولية والقواعد المهنية

ومشكلة الإعلام الجديد أنه لا يُطمأن له ولما ينشره وما يتضمنه، فهى حسابات شخصية، وطالما تتحكم في حسابك فأنت تكتب وتنشر ما تريده أنت لا ما يجب إخضاعه لقواعد النشر معلوماتيا ومهنيا وأخلاقيا واجتماعيا، وهي منصات خاصة وليست وسائل إعلامية مسؤولة.

والخبر حتى يجد طريقه إلى النشر في الصحافة المحترمة فإنه يمر على فلاتر عدة، وقد لا يُنشر في النهاية للتوجس بشأن تفصيلة ما فيه، وقد لا تكون مؤثرة، لكنها قواعد المسؤولية والضمير المهني والأخلاقي أمام المجتمع والقانون، إنما في الإعلام الجديد الفردي تجد التغريد خارج سرب المنطق والعقل والواقع بسنوات ضوئية.

فيسبوك وأقرانه، كما هي نوافذ مهمة للتعبير عن الرأي في زمن التكميم، فإن اعتبارها مصادر للمعلومات وشهودا على الحقيقة، أمر محفوف بالمخاطر، فليس كل ما يلمع ذهبا، وليس كل ما يُنشر صحيحا.

من هنا تتأكد ضرورة إعادة الروح إلى الإعلام التقليدي، إذ فيه حماية للمجتمع والدولة من العبث، وضمانة لمنع الانزلاق في مستنقعات الشائعات والأكاذيب والتزييف والتضليل والتشويه والإدانة دون تهمة جادة.

المصدر : الجزيرة مباشر