“مجتمعُ المِيم” ومرحلة ما بعد “اللّوبيات”

رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو

“لِقمع المثليّات والمثليّين والمزدوجي الميول الجنسية والمتحوّلين؛ نحن نعتذر نيابةً عن الحكومة والبرلمان والشعب الكندي، أقول: كنّا مخطئين، ونحن آسفون، ولن نسمح أبدًا بأن يحدث ذلك مرة أخرى”.

هذا ما قاله رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو وهو يذرف الدّموع عام 2017م، كما قال الرّئيس الأمريكيّ بايدن عقب استقراره في البيت الأبيض عام 2021م:

“يحقّ لكلّ فردٍ التّمتع بالكرامة والمساواة، بغضّ النّظر عن هويّته أو من يحب أو كيفية تحديد هويته، وسنواصل التعامل مع الحلفاء والشركاء لتعزيز حقوق الإنسان لأفراد مجتمع الميم هنا في الولايات المتحدة وفي جميع أنحاء العالم”.

مجموعات الضّغط “اللّوبيات” وإنجازات الشّذوذ

من الطّبيعيّ أن تنشط جهات ممارسة الضّغط “اللّوبيات” للحصول على مآرب وأهداف تخدم مصالحها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو القانونية، فهي تؤدي دورًا محوريًّا ومهمًّا في الحياة السّياسيّة الغربيّة حتى صار معروفًا أنّ القرارت يعدّها أو يصنعها اللّوبي ويتمثّل دور سلطات الدّولة في إضفاء الصّفة الرسميّة على تلكم القرارت.

لقد تمكّنت لوبيّات المثليّة من تحقيق إنجازات عديدة عبر مسيرة طويلة من العمل الدّائب والحثيث، والوصول إلى مفاصل القرار في العديد من الدّول، ومن ذلك أنّ العالِم المجري “كارولاي بنكريت” ابتدع في أواخر القرن التّاسع عشر مصطلح المثليّة الجنسيّة “Homosexuality” للدّلالة على ممارسة الجنس الشّاذ بين رجلٍ ورجل، وامرأة وامرأة؛ فعملت لوبيات المثليّة على أن يحلّ تدريجيًّا محلّ لفظ “sodomy” ليصل الأمر إلى حظر استخدامه بوصفه مصطلحًا موصومًا وغير محايد.

ومن إنجازاتهم أيضًا ما كان في عام 1973م إذ ألغت الجمعيّة الأمريكيّة للأطبّاء النّفسيين تصنيف المثليّة الجنسيّة اضطرابًا نفسيًّا، ثمّ تبعها في الخطوة ذاتها مجلس ممثلي جمعية علم النفس الأمريكيّة بقرارٍ أصدره عام 1975م، وبعد ذلك نجحت هذه اللوبيات في إزالة مؤسّسات الصحّة النفسية الكبرى في العالم تصنيف المثليّة اضطرابًا نفسيًّا بما فيها منظمة الصّحة العالمية التّابعة للأمم المتحدة التي أصدرت قرارًا بذلك عام 1990م.

لقد تمكّنت لوبيات المثليّة من فرض رؤية الشّذوذ القائمة على “تعدّد الطّيف الجندري”، وهي رؤية هشّةٌ لا تثبت أمام سلطان العلم في المحافل العلميّة والأكاديميّة، لقد فرضتها بسطوة التأثير لا العلم، واستطاعت كتم كثير من الأصوات العلميّة المعارضة لها وقمعها بالترهيب والتحذير من الإفصاح والمواجهة.

غيرَ أنّ كلّ هذه الإنجازات التي تدرّجت فيها لوبيات المثليّة عبر العقود الماضية تختلف كثيرًا عمّا يحدث في العالم اليوم من مشهد جنونيّ وبلطجيّ؛ فما الذي تغيّر؟!

شذوذ ما بعد اللّوبيات

الذي جرى بكل بساطة هو أنّ العالم دخل في العقد الأخير مرحلة اعتماد الأنظمة الغربيّة الليبراليّة للمثليّة التي غدت تعرف باسم “مجتمع الميم +LGBTQI” بوصفها جزءًا من الذّراع الهويّاتيّ وأحد أبرز الممثلين الثّقافيّين لليبراليّة الجديدة.

لقد تجاوزت المثليّة مرحلة اللّوبيات فأصبحت جزءًا من هويّة منظومات الحكم الليبراليّ في العالم اليوم، ولك أن تتخيّل أن الرّئيس الأمريكيّ بايدن عيّن في الإدارة الأمريكيّة -فور استقراره في البيت الأبيض- أكثر من مئتين من المثليّين المعلنين لشذوذهم المثليّ، من أبرزهم وزير النقل “بيت بوديجيج” وهو أول شخص مثلي الجنس بشكل علني تتم الموافقة عليه للعمل في مجلس وزراء الرئيس، وهو لا يفتأ يعانق زوجه ويقبله على المنصّة أمام الجماهير.

وكذلك “كارين جان بيير” وهي مثليّةٌ تعلنُ مثليّتها، فقد تمّ تعيينها نائبة السكرتيرة الصحفية الرئيسية في البيت الأبيض، و”نيد برايس” الذي عُيّن أول متحدث رسمي في وزارة الخارجية فهو مثلي الجنس بشكل علني كذلك. وأمّا الدكتورة “ريتشيل لافين”، فقد تمّ تعيينها مساعدة وزير الصحة والخدمات الإنسانية الأميركية، وهي أول شخص متحول جنسيًّا من رجل إلى امرأة بشكل علني تتم الموافقة عليه من قبل مجلس الشيوخ الأميركي لشغل منصب فدرالي. ومثلها سام برينتون، المتحوّل جنسيًّا أيضًا، فقد تمّ تعيينه نائبًا لمساعد وزير الوقود المستهلك والتخلص من النفايات في مكتب الطاقة النووية بوزارة الطاقة، ومن الطريف أنّه ضبط متلبّسًا في نهاية أكتوبر 2022م بسرقة حقيبة ملابس نسائيّة فيها ثياب بقيمة 2325 دولارًا في مطار مينيابوليس.

وفي كندا التي يحكمها اللّيبراليون أيضًا غدا من البديهيّ أن رئيس الوزراء “جوستان ترودو” يتعامل مع “مجتمع الميم” بوصفه ذراعًا للهويّة الليبراليّة، فهو حريصٌ منذ عام 2016م على أن يتقدّم مسيرات الفخر السنويّة للمثليين رافعًا رايتهم ملوّحًا بها.

وفي مسيرة الفخر التي تقدّمها ترودو عام 2019 أعلن أنّ هذه المسيرة تؤسس لما هو أبعد من مجرّد التسامح مع المثليّين؛ واصفًا المثليّين بأنّهم هم “النّاس” وأنّهم هم “الطبيعيّون”، فقال: “مسيرة الفخر هي أكثر من مجرّد مسيرة، فمن المهم أن يكون بوسع الناس -يقصد المثليّين- أن يخرجوا إلى الشّوارع وأن يكونوا فخورين بأنفسهم. يجب على جميع السياسيين أن يدعموا مثل هذه المناسبات التي تشجع الناس على أن يكونوا على طبيعتهم”.

ثمّ قال: “التسامح مع شخص يعني أن أقبل حقه في الوجود، لكن بشرط ألّا يزعجني كثيرًا، لنتوقف عن الدعوة للتسامح في كندا، إذ يجب أن نتحدث عن القبول والصداقة والاحترام والمحبة بين بعضنا وبعض”.

النّموذجان الأمريكيّ والكنديّ يقدّمان صورةً واضحةً عن تجاوز المثليّة في العالم اليوم مرحلة اللوبيات إلى حالة التّماهي مع المنظومة السياسيّة في الغرب سواء في أوروبا أو أمريكا، ومن الطبيعيّ بعد أن تغدو المثليّة جزءًا من المنظومة السياسيّة الحاكمة في الغرب وتبنّي الأحزاب الليبراليّة لها أن تغدو حاضرًا أساسيًّا في المؤسسات التشريعيّة والقانونيّة والتعليميّة الغربيّة، وتصبح عنوانًا من أبرز عناوين مؤسسات المجتمع المدني هناك، وهذا كلّه سيؤدّي إلى اصطباغ المجتمع بالهويّة المثليّة ويكون الصّوت الأعلى فيه لمجتمع الميم ترغيبًا وترهيبًا، وقوننةً وقمعًا؛ بغضّ النّظر عن مدى انتشار المثليّة في الواقع المجتمعيّ الغربيّ اليوم، فلم يعد هذا مهمًا بوجود إرادة سياسيّة لهيمنة المثليّة وأن يغدو مجتمع الميم هو الممثلّ الشرعيّ لمجتمعات الليبراليّة الجديدة.

المصدر : الجزيرة مباشر