الريادة الدينية ومفترق ما بعد الحداثة

 

إننا اليوم في عالم بحاجة إلى مؤشرات ملموسة ومقاييس واضحة للوقوف على مستويات العلمانية والتدين في المجتمعات. ولكن التدين الصادق -كما قلنا من قبل- شيء لا يخضع للحساب والإحصاء ولا يمكن ربطه بأرقام إحصائية، حيث لا يمكنك قياس التدين دون معرفة مدى صدقه وأصالته، والأرقام الإحصائية التي تحدد مستوى العلمانية لا يمكنها سوى أن تقيس الطقوس والسلوكيات الدينية الظاهرة العامة التي يشارك فيها الناس في أوقات معينة، ولا يمكنها قياس صدق هذه السلوكيات وأصالتها. كما أن الدراسات الإحصائية تحدد “التدين” أو “المحافظة” تبعا للنسبة المئوية للأشخاص الذين يؤدون الشعائر فيُصلُّون ويصومون من قبيل أن تلك الأفعال اتجاه اجتماعي وسياسي عام في المجتمع. ولكن في الواقع، هناك كذلك أهداف عديدة لتلك الإحصاءات التي تقصد استغلال الدين والتوجه لعلمنته.

لذلك، فإن العلاقة بين وجود مظاهر الدين وفعالية تأثيره في نفس المتدين، لا تكون دائما علاقة إيجابية. فقد ظهر في كثير من النتائج تضاؤل وضعف التأثير الحقيقي للدين كلما أصبح الأمر أكثر عناية بالمظاهر الخارجية. فبينما نرى مظاهر إسلامية واضحة كالشمس وسط السماء في بعض الدول العربية، فأثرها على الحياة الاجتماعية ضئيل للغاية.

توجيهات الأصنام

في الوقت الذي شكّلت الوثنية وعبادة الأصنام في مكة مظهرا دينيا مرئيا بوضوح في شتى نواحي الحياة حينذاك، حيث كانوا يهتمون كثيرا بتوجيهات الأصنام في أفعالهم، حظر أصحاب تلك العقيدة الوثنية تأثير دينهم على حياة الناس الاجتماعية. وعلى النقيض بينما جاء الإسلام دينا يدبر حياة الإنسان كلها في جميع أحوالها، فإنه أبى أن يكون مجرد عمل شكلي، ورفض أن يُختزل في أي مظهر خارجي فقط، قال الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ (البقرة: 177). وهنا في مقابل مظاهر الوثنية، يتم استعادة الروح الإيمانية الضائعة وإحياؤها بتنمية مشاعر الاعتزاز والمودة والرغبة دون التخلي عن مظاهر العبادة.

وللوهلة الأولى، قد يعتقد البعض أن الإسلام يدعو إلى نوع من العلمنة في مواجهة الأديان الأخرى، لكن هذه المسألة تتطلب دراسة منهجية أكثر تعمقا ووعيا. وفي هذا الصدد، أود أولا أن أكشف لك أيها القارئ تهافت وبطلان الادعاءات التي ترى الحداثة فكرا فريدا من نوعه في علاقته بالدين، وبطلان ادعاء الأصالة وتهافت محاولة تفسير الثقافة في المجتمعات الإسلامية بالأطر المفاهيمية نفسها التي تبنتها المجتمعات الغربية وثقافتها.

بين الحداثة والعلمانية

هناك تقارب واشتراك بين الحداثة والعلمانية، وإن انتشار مظاهر هذا التقارب يقدّم تفسيرا كافيا لأسباب المعارضة والمقاومة أو التمرد والثورات في العالم الإسلامي ضد التغريب الذي صُدِّر إلينا في بادئ الأمر باسم آخر مستعار ومظهر خفي من مظاهر الاستعمار، إضافة إلى دور ذلك التقارب في كشف العداوة الدائمة للإسلام. ولا ينبغي أبدا النظر إلى العلمانية في العالم الإسلامي على أنها منفصلة عن التطورات السياسية وبعيدة عنها، فعلمنة الحياة اليومية تتحول من وقت لآخر إلى نزعة اجتماعية لا تتوقف عن استنساخ نفسها. كما أن تأثير السياسة أكبر بكثير من تأثير التكنولوجيا على المجتمع. وفي السياق ذاته، يجب أن نذكر أن اقتراح “التخلي عن الثقافة، والتحلي بالعلم” الذي اقترحه المثقفون المسلمون وبعض العلماء للقول بفصل استخدام التقنية الغربية بعيدا عن الثقافة الغربية -أي لا تأخذوا الثقافة الغربية واستفيدوا بالعلم الغربي- في الأيام الأخيرة من الإمبراطورية العثمانية ليس اقتراحا باطلا وخاليا من الأهداف على الإطلاق.

وعلى الرغم من أن هيمنة الثقافة الغربية في العالم الإسلامي بعد ذلك كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بعدم انفصال التكنولوجيا عن الثقافة، فإن ما يتم تجاهله هو أن الثقافة “العلمانية” والنمط الغربي وأسلوب حياة المتعة، لم يأت من ناحية التكنولوجيا ابتداء، بل من خلال المسارات السياسية. وقد شكك “إيرول غونغور” في كتابه عن “التغيير الثقافي” في العلاقة بين التغير الثقافي والتكنولوجيا بطريقة جذرية.

وفي ضوء كل تحليلات الحداثة، وبصرف النظر عن واقع الدين والإسلام وتركيا، هناك خطاب واسع الانتشار بأننا وصلنا إلى عالم ما بعد الحداثة اليوم. باختصار، يمكن القول إننا على مفترق طرق تاريخي. ولا شك أن مفترق الطرق والتقاطعات في حياة البشرية تقدّم خيارات متعددة. والأمر الذي ربما يكون أكثر جاذبية في خطاب ما بعد الحداثة هو أنه هيّأ العقل والإرادة على حد سواء لقبول التعددية على عكس الاتجاه الأحادي في الفكر الحداثي. ويأتي عصر ما بعد الحداثة، على نقيض الحداثة ذاتها، حيث يقدّم مساحة واسعة للمناهج والطرق المختلفة التي يجب فهمها واجتيازها، حيث تتباعد المسارات وتختلف مظانها، وكذلك ادعاءات الحقيقة والتصورات والاتجاهات التاريخية، ويتسنى لكل شخص فرصة التدخل في التاريخ لصالح ما يتبناه من أفكار.

لا حاجة لإطالة الكلام في تلك النقطة، لأن ما بعد الحداثة أكثر ارتباطا بالعدمية التي تقود الموضوع إلى تشاؤم كبير وانعدام الإرادة الناتج عن الفهم النسبي للحقيقة، حيث إن أحد آثار هذه العدمية هو النسبية والقدرية، وتأثيرها النهائي على السياسة هو التشاؤم والاغتراب.

بين الدين والمجتمع

ومع ذلك، فإن النسبية هي فكرة ظهرت فقط في مرحلة ما بعد الحداثة، وهذه الفكرة في الواقع تُظهر للإنسان إنسانيته وفناءه ومحدوديته ومكانه في الكون. وبهذه الوسيلة اقتربنا اليوم من فهم أن إنسانية الحداثة التي ألَّهت الإنسان وجعلته المقياس الوحيد لكل الحقائق، هي في الأصل مرض اسمه اليقين الذي تعودنا عليه. وعلى عكس التصور الشائع، فإن وضع ما بعد الحداثة له أيضا ميزة إيجابية تذكِّر الناس بأنهم على مفترق طرق، وأن لديهم الحق والفرصة للاختيار، وأن هذا الاختيار يمكن أن يؤدي إلى الكثير من التغييرات.

والعلاقة بين الدين والمجتمع في الأدبيات الموجودة حول ما بعد الحداثة في هذه الفترة التاريخية، تكشف عن تجربة جديدة ومبتكرة، حيث ذكرت كل تنبؤات الحداثة أن الدين، وخاصة التواصل المجتمعي، سيختفي في النهاية لصالح الفرد الحر والمستقل. ومع ذلك، فإن تصوُّر “الفرد الحر أو المستقل” يأتي واحدا من أعظم أساطير وأكاذيب حركات الحداثة التي تميل إلى الأفول مع تقدم الوقت. ألا ترى كيف تدمر خطابات ما بعد الحداثة في بدايتها فكرة “الفرد الحر المستقل” ثم تفتح المجال له لتعيد توظيفه في الساحة الفكرية مرة ثانية؟!

ولا شك أننا عندما نتابع هذه المشكلة، نرى أننا سندور في الفلك ذاته لنقطع الطريق نفسه الذي سلكه أسلافنا، فالحدث المرتبط بمفهوم ما بعد الحداثة، هو العودة القوية إلى الدين في السجالات العامة بعد عقود طويلة من تنحية الحداثة له، فاستعاد الدين موقعه الشرعي في الفضاء العام.

المصدر : الجزيرة مباشر