السياسة ومفهوم التعايش بين الشرق والغرب

التعايش بين الأديان والشعوب

هل توافقني الرأي: الخاسر الحقيقي ليس من يهزمه العدو، بل هو من يصير نسخة من عدوه؟!

إن علاج مشكلة الفهم بالمعنى العام الشامل للإنسانية وأثره في الواقع السياسي وتخليص الإنسان مما يعانيه، لا ينطلق من مجرد معرفة الخصائص الفطرية أو الصفات التي يولد بها الإنسان المرتبطة بعِرقه وجنسه ووطنه، وكل ما قد يكون حجر عثرة في طريق راحة الإنسانية ورفاهيتها في كل المجتمعات. بل إن العلاج الناجع يقوم في الأساس على الفضائل التي تقوِّم الإنسان وتسهم في رفاهيته وتحسين مستوى معيشة الفرد والمجتمع.

على سبيل المثال، لا يرغب الإنسان بطبيعته في التعامل مع الظالمين المعتدين على الحقوق، حتى لو كانوا من عائلته أو من أقربائه أو من بني وطنه، ولا يعتبر نفسه منهم. من ناحية أخرى، يسعى الإنسان لإقامة علاقات أخوة وصداقة مع أقاربه وغير أقاربه الذين يحافظون على الفضائل ويرجون الخير للآخرين. وإن أعظم ميزة للسياسة الإسلامية أو المحافِظة في تركيا هي أنها تبنت هذا المبدأ بشكل كامل. ولأنها تتمسك بهذا المبدأ، فقد ساهمت مساهمة غير مسبوقة في إقامة العدالة الاجتماعية والعدالة القضائية في تركيا.

القوة في السياسة

عندما يتم توظيف القوة في السياسة أو مواجهة السياسة بالقوة، فإن الثبات على تلك المبادئ في هذه الأجواء يكشف المعادن الحقيقية للرجال. وكذلك حينما يسعى الإنسان لفرض فضائله على أعدائه ومطالبتهم بقبولها وتبنيها لتنمية المجتمعات، فإنه سيبتعد أيضا عن السياسة الإسلامية؛ لأن الفضائل ليست مجالا للمنافسة والفرض، ولكن مجالها المشاركة لا الإكراه.

إن الفضائل تتسع وتنتشر كلما اتسعت دائرة مشاركتها مع الآخرين وتوظيفها بعيدا عن الضغط، وبذلك يمكنها أن تستوعب الجميع. والسياسة الإسلامية تدعو الناس إلى الخير وتحثهم إلى تحويل الأعداء إلى أصدقاء: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. (سورة الممتحنة: 7-8).

إن وجهة النظر المطروحة اليوم باسم السياسة المحافِظة التي تحكم على خصومها بموقف معين، قد تكون ملائمة للإطار الذي رسمه كارل شميث لطبيعة السياسة، لكنها بعيدة كل البعد عن السياسة الإسلامية. فكما هو معلوم، جعل الفيلسوف السياسي الألماني الشهير كارل شميث، جوهر السياسة كامنا في التمييز بين الصديق والعدو، لا سيما بعد دخول السياسة كل ميادين الحياة تقريبا. ووفقا لرأيه، حتى في أوقات الاستقرار السياسي المؤقت، فهناك أحزاب جمَّدت عداواتها إلى حين، ولكن لا يزال شعورها عدائيا تجاه الآخر، وهذا أمر لا يتغير أبدا، ولذلك فإن تحوُّل العداوة إلى صداقة والأعداء إلى أصدقاء أمر مستحيل من وجهة النظر هذه.

كما قلنا من قبل، أصبح -بعد شميث- من المعتاد تقريبا وصف كل عمل سياسي بأنه علاقة “صديق وعدو” لا يمكن التغلب عليها. لدى الجميع عدو واضح، والشعور النهائي تجاه العدو هو القضاء عليه. لا يوجد خير يمكن مشاركته مع العدو، وليس هناك فائدة من إعطائه أي خدمة تحت أي ظرف. من ناحية أخرى، يعرف شميث الأصدقاء على أنهم أولئك الذين يجتمعون ضد العدو، وبالتالي يحتاجون إلى العدو ليتأكد اجتماعهم على الصداقة. وهو في كل ذلك يوجه فلسفة سياسية إلى الجنود المحاربين، الذين تتمثل وظيفتهم الرئيسية في الاستعداد لقتل الآخر.

دون عدو سأصاب بالجنون

ليس هناك مجتمع من الأصدقاء يميل نحو التواصل مع الآخر خارج رابطة الصداقة، نتيجة لاعتماد مفهوم السياسة لدى شميث على التمييز بين الصديق والعدو. بل على العكس، يكاد وجود العدو يكون من الضروريات، فالصديق نفسه يتم توظيفه في مواجهة العدو، فالأصدقاء لدى شميث هم أولئك الذين يجتمعون ضد عدو مشترك، والذين ينتجون دفاعا مشتركا ضد الآخر.

يقول شميث: “دون عدوٍّ، سأصاب بالجنون، وسيفقد عالمي كل استقراره وتماسكه. وإذا لم نتمكن من تحديد من هو العدو بشكل واضح، فإن العاقبة لن تكون محمودة ولن يكون هناك سلام، بل سنعاني من تخبط واضطرابات خطيرة، ومن فقدان النظام السياسي بأكمله وتلاشي الهوية السياسية للأمة”.

إذا انتبه المرء إلى تمييز شميت بين الصديق والعدو، فسيجد أنه كما تقوم الأخوة على روابط الدم، فإن العداوة لديه تعني أن الطرف الآخر لا يشبهنا وليس من دمائنا، ولم يولد مثلنا في نفس وطننا، ولا يمكن أن يكون أبدا واحدا منا، ولذلك لن تتوقف عداوتنا تجاهه أبدا.

أما من وجهة النظر الإسلامية فإن العدو ليس أشخاصا معينين لا يتغيرون أبدا، بل إن العداوة تكون للأفعال والجهل بالحقائق، وفي النهاية فإن كل عدو مدعو من طرف عدوه إلى الأخوة والقرب من معتقده. ففي الدين الإسلامي، لا تقوم الأخوة على روابط الدم وحدها، ولكنها اختيار طوعي وحر على أساس الفضائل.

المسلمون لا يعادون الحقيقة أينما كانت، بل يقبلون عليها طاعة وعبادة، فطلب العلم عبادة في الإسلام، والمسلم في سبيل الله ما دام يطلب الحقيقية. ومن هذا المنطلق فإن وجود تلك الحقيقة لدى الآخرين كفيل بإزالة أسباب العداوة، ولا شك أن هذا هو المطلوب. ولذلك لا يوجد أعداء إلى الأبد، فالعداوة والصداقة لا تتشكل مع ولادة الإنسان، ولكن عبر مراحل من الممارسات التي يقوم بها في دائرة أفكاره ومعتقداته.

الشفقة لا الكراهية

إن مشاعر المسلم تجاه الآخرين حتى ولو كانوا أعداء، ليست مشاعر الكراهية، بل الشفقة والرحمة. لأنهم حتى لو كانوا أعداء فإنهم من خَلْق الله، وعلى المسلم دعوتهم إلى الأخوة الإنسانية وإلى الإسلام. ولا شك في أن تلك النظرة الإسلامية يصعب قبولها من طرف العنصريين أو الذين يصنفون الناس تبعا لخصائص معينة لاسيما الأمور التي لا يد للإنسان فيها. ونقول لهم في هذا السياق: لا تنسوا أنه لا يمكن لأي شخص أن يغير عِرقه، والعلاقات القائمة على أخوة الدم ليس لديها فرصة للنمو والاتساع وفهمها من قِبل الآخرين بأي شكل. ويمكننا القول أيضا: لا يمكن لعلاقة ما ألَّا تعاني من سقطات أو اختلافات مهما كانت يسيرة تؤدي لخيبة أمل بين أطرافها، مما يجعل من السهل الوصول إلى استنتاج مفاده أنه “لا يوجد صديق”.

أما في الإسلام، فإن أعداءنا اليوم هم أعداء ليس بسبب خصائصهم الفطرية أو هوياتهم أو انتماءاتهم الإقليمية أو القَبَلية، ولكن فقط بسبب مواقفهم من الحقيقة وقسوتهم وظلمهم وقهرهم للإنسانية. وانطلاقا من تلك الفكرة، نقول مرة أخرى كما عبر الإسلام عن الحكمة السقراطية: ” لو كان لدى الإنسان علم كاف ما تصرف بذلك الشكل”، فلو كان يعلم لفكَّر ولو فكَّر لَفَهِمَ ولو فهم لتوقَّف عن التمادي في العداوة. وبتعبير آخر، إن سبب العداوة بيننا هو الجهل، أي أن بعضنا لا يعرف بعضا. في الواقع نحن لا نعرف أنفسنا.

نحن بحاجة إلى القضاء على الجهل الذي يزيد مسافات التعارض بيننا. ليس الإنسان هو العدو الحقيقي، ولكنه الجهل كموقف وفعل وحماقة.

وفي هذا السياق نؤكد أن الجهل لا يمكن أن يظل صفة لصيقة بالإنسان إلى الأبد. كما أن الإنسان بعد الفهم والوعي قد ينتكس إلى دركات الجهل مرة ثانية: {فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ}. (الأنبياء: 64-65).

والخلاصة أن المعنى الحقيقي للسياسة في الحياة العملية هو التعايش بيقظة ووعي كاملين في إطار المبادئ والظروف والإمكانيات، وعدم الجمود في ظل الجهل بوظيفة الإنسان في عمارة الأرض.

المصدر : الجزيرة مباشر