هل حرَّمت طالبان تعليم الطالبات؟

حرصت المرأة على أخذ نصيبها من العلم، وطالبت الصحابيات رسول اللهﷺ بتحديد وقت خاص لهن، لئلا يستأثر الرجال بالوقت كله، كما في رواية أبي سعيد الخدري فيما أخرجه البخاري:

قالتِ النِّسَاءُ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِن نَفْسِكَ، فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَّ وأَمَرَهُنَّ، فَكانَ فِيما قَالَ لهنَّ: ما مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاثَةً مِن ولَدِهَا، إلَّا كانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ فَقالتِ امْرَأَةٌ: واثْنَتَيْنِ؟ فَقَالَ: واثْنَتَيْنِ..

ومنع البنات من التعليم لا يقول به أحد، وليس من الإسلام في قليل ولا كثير، وبيان وجه الصواب واجب على ولاة الأمر من العلماء والمحتسبين، وكل نصوص الإسلام الوافرة المتضافرة التي أوجبت طلب العلم وحثت عليه، فالعموم فيها يشمل للرجال والنساء ولم يرد ما يخصصه، كما روى أنس عن رسول اللهﷺ قال: طلبُ العلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ، وإِنَّ طالبَ العلمِ يستغفِرُ له كلُّ شيءٍ، حتى الحيتانِ في البحرِ” أخرجه ابن ماجه، وهو في صحيح الجامع برقم: 3914.

وتشمل فرضية طلب العلم، الفرض بنوعية: فرض العين وفرض الكفاية، وتبقى تقسيمات العلم وتخصصاته حسب التكوين الفطري والمواهب والملكات، وما تتطلبه حاجة المجتمع.

فأطلعوني على القرار

أثبت هذه المقدمة قبل الخوض في الجدل، الذي أحدثه قرار إمارة أفغانستان الإسلامية بشأن منع تعليم البنات، وتطبيقا لتعاليم القرآن في التثبت فيما يرد من أخبار، وعدم إبداء الرأي قبل سؤال أهل الشأن  وسماع حجتهم، تواصلت مع من تعرفت عليهم في قطر من قادة طالبان والدوائر القريبة منهم، فأطلعوني أن القرار ليس منعا لتعليم البنات، وإنما تعليقا للدراسة مؤقتا لأنهم بحاجة إلى تصحيح المناهج التي وضعها الاحتلال وحكومته، وتهيئة الدراسة المنفصلة بعيدا عن الاختلاط، ومحاولة إزالة كافة الآثار السلبية التي خلفها الغزاة، وسعوا من خلالها إلى طمس الهوية الإسلامية للمجتمع الأفغاني، وخلخلة الثوابت وفرض ثقافة خاصة كما فعلوا في كل المستعمرات المحتلة قبل ذلك.

والذي يجعلني أصدق رواية حكومة طالبان والتي صرح بها بعض قادتهم على مواقعهم، أن طالبان لا تعرف المراوغة، وفيها صراحة خشنة تجعلها تعلن ما تريد دون مواربة، وظهر هذا في رأيهم من قضية الديمقراطية، وهيكل الدولة، وتطبيق الشريعة، فلو كان أمر تعليم البنات محرما، لأعلنت ذلك طالبان من أول يوم، إذ لا يجوز في حقها السكوت عن محرم، أو تأخير البيان بشأنه، ولكن جاء قرار المنع بعد مرور عام كامل على حكم طالبان. وقد حدثت أمامي واقعة قبل بضعة أشهر في الدوحة تؤكد ذلك، أثناء زيارة وزير الخارجية أمير خان متقي ومعه وفد وزاري من 17 شخصية منهم عدد من المسؤولين عن التعليم، حيث سألهم أحد الحضور من القطريين: ما المشروع الذي تضعونه في مقدمة أولوياتكم، ولو توفر لكم مال وجهتموه إليه؟ فقالوا تعليم البنات وتوفير الحافلات لهن، فقال: لعلنا نكلم الحكومة القطرية تعطيكم من حافلات كأس العالم بعد انتهاء فعالياته، وهذه فرصة لأذكره بذلك.

أبواب الجحيم

لكن هذا القرار فتح أبواب الجحيم على طالبان وحكومتها، وتعددت بواعث المعارضين له والمشنعين به، وليس من بينهم من تواصل مع المصدر واستجلى الأمر، كما يفعل طلبة الإعلام ناهيك عن أعلام العلم وطلبته، وهؤلاء استفزتهم صورة قرار صادر من حكومة إسلامية، فيه مخالفة للنصوص المرعية، وكان الأولى بهم النقد على بصيرة بعد التثبت، ويتحتم، على العلماء زيارة إخوانهم في أفغانستان والتعرف على أحوالهم، وبذل النصيحة الواجبة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.

وهناك فريق وجدها فرصة للتشهير بالإمارة الإسلامية، والتنفيس عن مكونات الصدور تجاه تجربتهم، لأنهم أعداء للمشروع الإسلامي بطرفيه الغنوشي/طالبان، أو أنهم من جملة من هزمتهم طالبان على الأرض، وأخرجت قادتهم وهدمت قبلتهم، والفريق الثابث يرون انتصار طالبان تعريضا بهم وبديلا لطرحهم، لاسيما مع أفول نجمهم وتعدد إخفاقاتهم، مع ما قدموه من تفريط وتنازلات، وأشد الشانئين لحكومة طالبان أولئك الذين ارتبط مشروعهم ببقاء المحتل، ورهنوا مستقبلهم بمصيره. وأعجب ما في المشهد تلك الثلة التي لا تمانع من عرض الثوابت على مائدة الحوار، وترحب بالرأي والرأي الآخر في كل قضية  وطرحها في الفضاء الواسع ضمن المحاورة والمناظرة، لكنهم مع طالبان أظهرت النصوص ما تخفيه النفوس، وليس معنى هذا أننا نوافق طالبان في كل اختياراتهم، فهم بشر يجتهدون وهم بين أجر أو أجرين، ووقوعهم في خطأ  وارد كشأن سائر البشر، لاسيما من تصدر للعمل العام والقيادة، ولكن ليست عقوبة الخطأ الذبح، وإنما الترشيد والنصح، فقد أظهرت أزمة منع تعليم البنات “مؤقتا” في أفغانستان، أن طالبان لم تهزم الأمريكان وحلفهم فقط، بل هزمت أحزابا وجماعات، ومدارس وتكتلات، وفي مقدمة هؤلاء داعش التي رفعت راية المحتل بعد خروجه وعملت على إكمال مشروعه.

إلى دائرة الفعل

وأخيرا هل من انتقدوا قرار طالبان الأخير يستطيعون -من باب فقه الميزان- أن يستدركوا ما فاتهم، ويضموا إلى انتقاد طالبان انتقاد دول العالم التي وقفت مع الاحتلال ضدهم طيلة عشرين سنة؟ ثم لم تعترف بهم كما يفعل العالم مع كل حركات المقاومة والتحرر الوطني، بل فرض عليهم حصارا خانقا وعزلة دولية!

لماذا الاهتمام فقط بالمرأة الأفغانية وما يتعلق بها دون النظر إلى باقي المعذبات في السجون والمعتقلات، والمضطهدات في ظل أنظمة الجور، ولماذا لا يهتم بالمجتمع الافغاني كله وما يعانيه في كافة المجالات؟

وحتى نخرج من دائرة القول إلى الفعل، يمكن للعالم المتحضر والدول التي أدانت قرار طالبان بعد ربع ساعة من صدوره، أن يعلنوا عن دعم مشروع تعليم البنات في أفغانستان وتوفير ما يتطلبه ذلك، وبذلك نضع الأفغان أمام مسؤولياتهم، وأقل من ذلك وهو من أضعف الإيمان أن نطالب الأمريكان برد 9 مليارات من الدولارات التي نهبوها من خزائن أفغانستان، وعندها سترون طالبان وقد وجهت أكبر نصيب منها إلى التعليم والصحة… قولوا تصحوا.

المصدر : الجزيرة مباشر