مراجعة نهاية العام.. حتى لا يبتلعنا العالم الافتراضي

(1) الدنيا على جناح موبايل

جميع من ولدوا في منتصف القرن العشرين لا يستطيعون بسهولة استيعاب ثورة الاتصالات والتغيرات المذهلة التي أحدثتها الهواتف الذكية في حياة الناس، أينما تذهب تجد العيون مشدودة إلى شاشة الهاتف والأصابع تتحرك على الشاشة لتعلق على حدث أو تكتب رسالة. تطبيقات الـ “موبايل” شغلت الناس عن حياتهم الواقعية، البعض يتابع مشاهير إنستغرام بحماس يفوق متابعته لأفراد أسرته، وربما يعرف الشباب تفاصيل الحياة اليومية للنجمة “سيلينا جوميز”، التي يصل عدد متابعيها على إنستغرام إلى حوالي 300 مليون متابع، أكثر مما يعرفون عن برنامج أشقائهم اليومي الذين يعيشون معهم تحت سقف واحد، ولو سألت هؤلاء عن أحدث ترند على السوشيال ميديا، سيسارعون بالإجابة، وربما لو سألتهم عن ما أكلوه بالأمس لن يستطيعوا التذكر.
“ثقافة الترند” أصبحت زاعقة ومؤثرة حتى منتقديه يشاركون بالترويج له بالنقد، “لفت الانتباه” أصبح سلعة تدر ثروة على من يعرف كيف يسوقها، وهي تساعد خوارزميات التطبيقات التي تراقبنا على التعرف على ما نفضله ومن ثم التنبؤ بسلوكياتنا مستقبلا، ويتم الاستفادة من ذلك من قبل إدارة الإعلانات فتتوجه إليك بالإعلانات التي تدخل في مجال اهتمامك بشكل شخصي.
صحيح أننا لا ندفع مقابل خدمات المنصات الرقمية لكننا ببساطة المنتج الذي يتم بيعه للمعلنين وأصحاب المصالح، ولعل فضيحة بيع “فيسبوك” بيانات الملايين من مستخدميه لشركة “كامبريدج أناليتيكا” عام 2018 مازالت ماثلة فى الأذهان، ولقد استخدمت هذه الشركة البيانات لأغراض الدعاية السياسية والتأثير على توجهات الناخبين.

(2) التلاعب بالعقول

تطبيق “تيك توك” يثير مخاوف الغرب وخاصة أمريكا لأنه صيني والصين المنافس الأول لأمريكا وأوربا، مؤخرا نشرت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية تقريرا عنه ذكرت فيه الاختلافات بين النسختين الصينية والدولية من منصة “تيك توك”، وأبرزت حديث موظف سابق مرموق في شركة “غوغل” مع برنامج “60 دقيقة” الأمريكي قال فيه: إن “نسخة الصينيين من تيك توك تعرض لمن أعمارهم أقل من 14 عاما تجارب علمية يمكن القيام بها في المنزل، أو جولات في المتحف، أو مقاطع فيديو وطنية أو تعليمية، ويقصرون الاستخدام على 40 دقيقة فقط في اليوم. وهذا الإصدار من تيك توك لا يُقدَّم لبقية العالم. ولأنهم يعرفون أن التكنولوجيا تؤثر على تطور الشباب، فيبيعون في سوقهم المحلي نسخة فقيرة، بينما يقومون بتصدير الأفيون إلى بقية العالم”.
وهذا الموظف ويدعي “تريستان هاريس” حذر سابقا من الآثار الخطيرة للتقنيات الجديدة على انتباهنا، وأشارت الصحيفة الفرنسية إلى مداخلة الرجل، الذي تصفه الصحافة الأمريكية بأنه “ضمير وادي السليكون”، بأنها مخيفة جدا. وتعليقي على الأمر أنه مبالغة للنيل من “تيك توك ” الصيني، وأعتقد أن ما قاله “هاريس” ليس دقيقا، فهذه المنصات حين تنطلق ويتضاعف عدد متابعيها ويكسر حاجز المليار تتحكم فيها الخوارزميات تلقائيا.
لكن ما صدق فيه الرجل هو أن جميع المنصات الرقمية الشهيرة مثل فيس بوك وإنستغرام ويوتيوب وغيرهم تؤدى بالفعل إلى الادمان وتؤثر على تطور الشباب وشخصيتهم، وليس” تيك توك” وحده. وأصحاب الضمائر من العاملين السابقين في هذه المنصات، يحذرونا من استلاب العقول والتشتت الذهني نتيجة المتابعة الطويلة، لكن أعدادا هائلة من متابعي هذه المنصات يتعاملون معها على أنها مصدر للمعلومات والمعرفة، لكنها معرفة غير موثقة تششت العقل وتؤثر على قدرته التحليلية فيرتكن إلى رد الفعل الجمعي ويتنازل الإنسان بكامل إرادته عن عقله وقدرته على التحليل والوصول إلى نتائج منطقية.

(3) أنت أملك الوحيد

لا يمكن أن تنصح أحدا الآن بعدم التعامل مع المنصات الرقمية وتطبيقات الموبايل، فلقد أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا المعاصرة، لها فوائد شتي ولكن أيضا لها أضرار بالغة، والحل عندك وليس عند الناصح، لكن عليك أن تعلم أن العالم الافتراضي لا يمكن التحكم فيه كليا من قبل الحكومات، فهناك قوانين تصدر لوضع ضوابط وقواعد للمنصات الرقمية، لكن في النهاية لا أحد يعرف على وجه الدقة ماذا يحدث في دهاليز هذه المنصات وكيف يطور الذكاء الاصطناعي نفسه ليصبح كيانا متطورا ينطلق لأبعد من الغايات التي صنع من أجلها، وهو ما حذرنا منه العالم الراحل “ستيفن هوكينغ”.
والحل الذي أجده مناسبا هو التعامل مع هذه المنصات على أنها وسيلة وليست هدفا مثلها مثل السيارة، لا أحد منا يصطحب سيارته إلى فراشه، توقف عن اصطحاب الموبايل معك إلى الفراش، العالم لن يفوتك إن لم تراقب هاتفك المحمول في كل لحظة، لكن ما يفوتك هو الاستمتاع باللحظة التي تعيشها ولن تستعيدها من جديد.
حياتنا الواقعية تستحق منا أن نوليها اهتماما أكبر من حياتنا عبر المنصات الرقمية ولا يمكن أن نطور أنفسنا ونبتكر ونبدع حلولا لمشاكلنا إلا إذا أعطينا عقولنا مساحة للتأمل ولنفوسنا قدرا من العزلة، هذا الصخب الهائل على المنصات الرقمية هو في الحقيقة لا أحد.
إن اردت أن تغير العالم في عام 2023، أبدأ بتغيير نفسك، حاول أن تكتسب عادات جديدة وتجارب حقيقية لا افتراضية، صادق نفسك وثق فيها ولا تتنازل عن عقلك لأحد …كن حرا ولن تكون حرا أبدا في العالم الافتراضي.
وكل عام وأنتم بخير بمناسبة العام الميلادي الجديد …أدعو الله أن يكون عام 2023 عام سلام على البشرية جمعاء.

المصدر : الجزيرة مباشر