الحياة السريّة للبقر

بين المفهوم الديني والسياسي.. والمرأة البقرة لدى السوريين

 

 

البقرة المقدسة

قدّست الهندوسية الأبقار، وحظرت أكل لحومها، لكنّها في الوقت نفسه برّرت صناعة الألبان لاعتقادها أنّ الأبقار كائناتٌ سخية وكريمة تحبُّ مشاركة ألبانها مع البشر، لكن ذلك لا يحدث دائمًا خاصة لدى المتشددين من الهنود، فالقيم الرّوحية في الهند أثمن من الحياة نفسها.

حاول الأوربيون دراسة ديانة الهندوس وشرحها على مدى سنوات من احتلالهم للهند، لكنّهم فشلوا.

كان من الصّعب أن يفهم الإنجليز الإنسان الهندي للفارق الشّاسع في طريقة الحياة والتّفكير، لذا تسببت لهم فكرة تقديس الهندوس للبقرة قلقًا معرفيًا، فهم لا يستطيعون استيعاب المشابهة بين آلهة من البشر وأخرى من الحيوانات الوضيعة.

فالهندوس يقدّسون البقرة، لأنّها رمزٌ لكلّ شيء حي، فهي أم الحياة، كما تعد المسيحية مريم أم الله!

الحياة السّرية للأبقار في كتاب

يبدو أنّ الإنجليز استطاعوا مؤخرًا الولوج إلى عوالم البقر النّفسية، بل والرّوحية أيضًا بعد استنكارهم لقيمتها ومكانتها عند الهنود، فقد قلب كتابٌ للبريطانية “روزا أموند يونج” المفاهيم الأوربية رأسًا على عقب، وقد صدر أوّل مرّة عام 2003 عن دار مختصة بالكتب الزّراعية، وأعيد طباعته في دار نشر أخرى عام 2017.

تتحدّث روزا في كتابها عن الأبقار التي تقوم بتربيتها والعناية بها في مزرعتها وهي 113 بقرة أحبّها إلى نفسها البقرة “سلاندين” وهي بقرة صفراء “فاقع لونها” تتحدّث روزا إليها، وتتعامل معها كما تتعامل مع البشر، وتقول روزا إنّ بقرتها تشعر بالخجل، ولا تحبّ أن يلتقط أحدٌ لها الصّور!

ذاع صيت روزا بعد صدور كتابها، وأصبحت حديث الصّحف، وزار مزرعتها الصّحفي البريطاني باتريك باركام الذي يعمل في جريدة “الجارديان”، وقد قالت له أثناء تجوالهما في المزرعة: “لنرَ من منهنّ يسمح مزاجها بالحديث؟”.

روزا تتعامل مع أبقارها بهذه الطّريقة فهي تسلّم عليها، وتسأل عن حالها، وتعرف من حركة البقرة مزاجها، وتتعامل معها على هذا الأساس.

وقد فصّلت الحديث في كتابها عن الحياة السّرية “النّفسية” لبقراتها اللواتي يحملن أسماء أطلقتها على فصول الكتاب، ومن الملاحظ أنّ روزا تربّي “البقر” وليس الثيران سائرة بذلك على آثار الهنود في تفضيل الأنثى “البقرة” وتقديسها.

لم تحاول روزا إضفاء صفة القداسة على أبقارها، لكنّها ذهبت إلى أنسنتها والتّعامل معها، وتحاول روزا في كتابها التّأكيد على أنّ الحيوانات تمتلك حياة عاطفية، ومشاعر، وأحاسيس، وربّما تمتلك وعيًا أيضًا وهو أمر حاول علماء القرون الماضية نفيه، فقد أصرّ “ديكارت” في القرن السّابع عشر على أنّ الحيوانات مثل الآلات لا مشاعر لها ولا أحاسيس، ولاقت نظريته قبولًا إلى درجة أنّ تشريح الحيوانات في ذلك العصر -وهي حيّة- يتمُّ من دون تخدير لفحص أعضائها الدّاخلية، وكان من الطّبيعي استخدام الحيوان حتّى يقع من الإرهاق والتّعب من دون رحمة.

البقر من منظور سياسي

البقر المقصود هنا ليس ذاك الذي جاء ذكره في القرآن الكريم في سورة البقرة، وإن كان يمت بصلة قرابة لبني إسرائيل.

فالدّولة اليهودية العبرية الإسرائيلية لها اليد الطولي في إرساء حكم البقر في بلادنا ربّما انتقامًا للبقرة التي ذبحوها “وما كادوا يفعلون”، وهؤلاء البقر لا يختلفون عمن ذكرهم القرآن، فهم يحملون الصّفات ذاتها التي حملها قوم موسى الذين جادلوه في ذبح البقرة.

هذا رأي الشّعب، أمّا البقر الذين وصلوا إلى السّلطة فلهم رأي آخر، فهم يرون أنفسهم آلهة وما الشّعوب التي يحكمونها سوى أبقار لا تفقه شيئًا، لذا كانت الثّورات العربية في “الرّبيع العربي” مفاجئة للحكّام، ولم يستطيعوا استيعابها واحتواءها بشكلٍ سلمي من دون إهدار دماء خاصة في سوريا وليبيا واليمن، وقد عبّر نزار قبّاني في قصيدته “سيرة سيّاف” عن تصوّر الحكّام العرب لشعوبهم، ووصفهم بالبقر، وأنّهم مركوبون حتّى يوم القيامة.

هذا التوصيف العربي لا يستقيم مع المعطيات السياسية الأوربية الجديدة، فقد حدث في بريطانيا هذا العام ما أثار انقلابًا في النظرة الاستعمارية للشعوب، وهو استلام “سوناك” النائب البريطاني من أصول هندية هندوسية لمنصب رئيس الوزراء في بريطانيا، وهو شكلٌ جديدٌ من تبادل الأدوار، فها هي بريطانيا العظمى التي احتلت الهند ردحًا من الزمن ولم تستطع استيعاب عبادة هؤلاء الرعاع للبقر، تختار رئيس وزراء يعبد البقر، وقد أدّى القسم “اليمين الدستورية” أمام البرلمان البريطاني على “البهاغافاد غيتا” وهو أحد النصوص الأساسية للهندوس، وفي وقت يحيي فيه الهندوس عيدهم الديني السيخي الهندوسي المسمى “الدويلي”.

البقرة في الموروث الشّعبي السياسي السوري:

الخوف الكامن في نفوس البسطاء عادة يتفجّر عبر أغنية شعبية تُلمِّح إلى موقف سياسي لا يجرؤون على إعلانه، وتمرُّ أحيانًا بسلام وأحيانًا تتسبب بكارثة لمن يغنيها، وفي موروثنا الشّعبي أغنية يغنيها الأطفال ليلة العيد “بكرة العيد ومنعيّد ومندبح بقرة السيّد والسيّد ما عنده بقرة مندبح مرته ها الشقرا” المقصود زوجته الشّقراء، وفي الأغنية دلالة سياسية يحملها “منصب السيّد، ولون شعر زوجته” فمن لا يستطيع أن يطول الرأس يرضى بأن ينتقم من اليد، وأضعف الإيمان من الذيل.

وفي منطوقنا الشعبي يقال للمرأة السمينة “بقرة” وهذا في سياق الذم لا المدح، ومن هنا نرى أنّ “البقرة” الحيوان الوحيد الذي اختُلف على مكانته وتوصيفه، وتشريح شخصيته في مختلف بلاد العالم، فسار به بعضهم إلى التقديس، وعلى الطرف الآخر انحدرت قيمته المعنوية إلى الحضيض، لكن لا أحد ينكر قيمته كحيوان مفيد ومسالم.

المصدر : الجزيرة مباشر