تختفي الأنوية لتسجل الأنانية مئة درجة مئوية لغويا

مصرف الرافدين

كثيرا ما نسمع في حياتنا اليومية عن الأنانية والأنوية، هل هما كلمتان مترادفتان لمعنى واحد أم هناك فرق بينهما؟؟

بحسب علماء اللغة فإن الأنوية والأنانية كلمتان مشتقتان من لفظ واحد هو “أنا” لكن هناك بونا كبيرا بينهما في المعنى.

الأنانية كما هو معلوم أن تفضل مصلحتك الشخصية على مصلحة الغير، غير آبه بما يصيب الآخرين من أذى.

أما الأنوية فتعني الشعور بذاتك (الأنا) من خلال نظرة وتقييم الآخرين لك، ساعيا لتحسين صورتك ورفع شأنها أمامهم، والدأب على خدمة الآخرين، وتقديم مصلحتهم على مصلحتك، للحصول على مكانة عالية بينهم.

فالـ”أنا” كما يقول عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي: “محور الشخصية البشرية التي يحاول الإنسان جاهدا رفع شأنها بنظر الآخرين، بل هو المحور الذي تدور حوله نشاطاته”، ويمكن القول بوجه عام لا على الخصوص إن الإنسان أنويا بطبيعته وليس أنانيا.

وهذا لا يعني عدم وجود أناس غير أسوياء تسيطر عليهم أنانيتهم، لكن هؤلاء أقل نسبيا إذا ما قورنوا بالأنويين كما يقول الوردي.

سرقة القرن

عشرون سنة مضت ونحن نقطر أنوية، ونحن ننام ونستفيق على المدهش والموحش من الأمور التي تلاحق حياة العراقي، فمن صدمة صفقة موحِلة إلى أخرى أوحل منها، ومن جريمة سرقة مُسقلة إلى أخرى أسقل منها. وآخر ذلك جريمة العصر باختفاء 2.5 مليار من بنك الرافدين المنحوس الملبوس بالأرواح والجن وشتى أنواع علامات الاستفهام والاستعلام بمنتهى الأنانية، وخصوصا أن السارق موجود لكنه يتحرك بخفية علم الخوارق ولا تحده حدود، كي ينفذ هو أو أعوانه جريمة أخرى تحت مسمى آخر ونحن منشغلون مذهولون في استيعاب هذه السرقة متى وكيف وأين؟ ولمَ لا يتحرك القضاء؟ ليكتفي الأخير في النهاية بإسقاط التهم عن كبار السارقين، أو السجن مع وقف التنفيذ، أو إخراجهم بكفالة، أو دفع غرامة بسيطة لا تقف أمام الرقم المنهوب المسلوب، ولا تمت له بصلة لا من قريب ولا من بعيد.

وبينما نحن منشغلون نقلب وجه الحقيقة التي ستروجه لنا وسائل الإعلام، بحسب ما يشار إليها، تتحرك بآبئ أعيننا في محيط الصورة المراد لنا أن نراها، إلى أن يصيبنا بالحول بريد جديد، أدخل يديه في جيوب فقراء أصابها العفن. يسرقون حتى الجيب الفارغ، فلا داعي إلى أن يكون له جيب. هنا المواطن الخلوق قد أتم ما عليه بتطبيق الأنوية وتقديم حقه وحق أولاده للمسؤولين والمتنفذين في هذه الحكومة الحاضرة الغائبة.

   النظرية البراغماتية المعكوسة

فالكل في الحكومة يرمي اللوم على من قبله، ويمارس فن التلبيس والتغليس في إدارة الملفات، مع العلم بأنهم نفس الوجوه التي تدار منذ عشرين عاما ونيف، ولكن باختلاف المسميات المنصبية، لهم حق التصرف بمقدرات هذا البلد الثري الأبي باختلاق الحيل للصفقات والاختلاسات والسرقات، بنظرة براغماتية سياسية دينية معاكسة فاخرة. فعندما أشار رجل الأعمال المتهم بالسرقة نور زهير جاسم الذي ألقي القبض عليه أثناء محاولته الهرب بطائرة خاصة من المطار، إلى تورط وزراء ومسؤولين كبار معه في السرقة، استبعد القضاء مباشرة هذا الاعتراف وفنده، وهو مؤشر إلى أن العراق سيواصل تصدّر قائمة الفساد بعدما احتل المرتبة 157 من أصل 180 دولة في مؤشر الشفافية الدولية (مدركات الفساد).

تسهيلات المرور

2.5 مليار دولار أي 3.7 تريليونات دينار عراقي، تعادل 2.8 بالمئة من ميزانية العراق لعام 2021.

هذا المبلغ سُحِب بين سبتمبر/ أيلول 2021 وأغسطس/ آب 2022 عبر 247 صكًّا حررت لخمس شركات وقامت بصرفها نقدا، بعد التسهيلات اللازمة من خلال قرار عزل ديوان الرقابة المالية الاتحادية، عن العملية بناء على طلب من النائب هيثم الجبوري رئيس اللجنة المالية البرلمانية، الذي لم يؤخر الطلب ولم يتصرف بأنانية!!! علمًا بأن ثلاثًا من هذه الشركات أنشئت قبل شهر واحد من تحرير الصكوك، لتخرج المبالغ بسيارات مصفحة وحماية أمنية برعاية مصلحة الضرائب والبنك المركزي ووزارة المالية التي تعاونت على البر والتقوى!

سرقة الأمانات الضريبية المودعة في مصرف الرافدين الحكومي هي واحدة من السرقات التي حصلت وستحصل كثيرا، فلا داعي لأن نفتح مدرسة جديدة. يجب أن نتمتع بأنوية وإيثار عاليين ويجلس أطفالنا على الأرض في مدارس الطين، ونرسل أولاد المسؤولين إلى أرقى المدارس العالمية، لا داعي للأنانية، ولا ينبغي أن نطالب بمستشفى أو دواء أو شارع مبلط، أو نحلم بمنظومة صرف صحي، ولا نطمع في أن توفر لنا الدولة عملا أو مسكنا، كي لا نكون أنانيين.

القصور الفارهة والسيارات الحديثة والاستثمارات والأملاك والسفرات ورفاهية العيش لحد تأمين 1000سنة ضوئية لأحفاد أحفادهم، هذا حقهم، ليس في الأمر أنانية، أموال تليق بالمسؤولين والوزراء والمتنفذين ومساعديهم ومؤيديهم وأبنائهم، وما أكثرهم!

والآن بعد تراجع الضمير عند الفئة الحاكمة واختفاء الأنوية، واستفحال مرض حب الذات والأنانية، بحيث تعدت مئة درجة مئوية، هنا أتساءل!! لوكان علي الوردي واضع علم الاجتماع حاضرا بيننا الآن ماذا سيفعل؟

هل سيؤكد نظرياته؟ أم أنه سيمزق ما كتبه عن الأنوية والأنانية بسبب ما مارسه سياسيونا من فنون الاستئثار والإنكار غير آبهين بنظرة المجتمع إليهم.

لتتراجع بعدها الأنوية وتستفحل الأنانية كي تسجل بفخر، مئة درجة مئوية.

 

المصدر : الجزيرة مباشر