واشنطن واللعب على الحبال بين تركيا والأكراد

الرئيس الأمريكي جو بايدن

منذ أن أعلنت أنقرة نيتها القيام بعملية عسكرية في الشمال السوري، بهدف إنهاء وجود عناصر تنظيم قسد المسلحة في المنطقة، وإخراجهم من مواقع تمركزهم في مدن كوباني وعين العرب وتل رفعت بريف حلب بعمق 30 كيلومترا، والتحركات الأمريكية على الأرض وما صاحبها من تصريحات مكثفة من جانب المسؤولين في إدارة بايدن، تشير جميعها إلى أن واشنطن عادت مجددا إلى ممارسة لعبتها المفضلة، اللعب على جميع الحبال.

فهي من ناحية تُظهر دعمها لحق تركيا في الحفاظ على أمنها القومي، وتؤكد تفهمها لما تبديه من مخاوف نتيجة تعرضها لعمليات إرهابية في الداخل من جانب تنظيمات انفصالية تعمل على إيجاد واقع جديد في المنطقة الحدودية السورية المتاخمة للأراضي التركية، ومن ناحية أخرى تعمل جاهدة من أجل الوفاء بتعهداتها للتنظيمات المسلحة التي يجمعها تنظيم قسد (وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني) بمنحهم منطقة حكم ذاتي في الشمال السوري، على غرار كردستان في شمال العراق، وذلك مكافأة لهم على مساندتهم لها، ووقوفهم إلى جانبها في حربها على تنظيم داعش، ولذلك فهي تمدهم بالسلاح وتعمل على تدريبهم وتأهيلهم للتطورات المستقبلية في هذا الإطار.

فإرضاءً لتركيا وحفاظًا على ما بقي من مصالح معها، قامت الولايات المتحدة الأمريكية بعدة خطوات لافتة خلال الأيام الماضية، إذ قلّصت دوريتها المشتركة مع قوات سوريا الديمقراطية في شمال شرق سوريا تزامنًا مع التصريحات التركية التي تفيد بقرب الهجوم البري الذي سبق أن تم الإعلان عنه، كما قامت بعملية إجلاء واسعة لجميع الموظفين المدنيين الأمريكيين بمن فيهم الدبلوماسيون من مناطق سيطرة قسد إلى مدينة أربيل في كردستان العراق، في إشارة إلى احتمال بدء الهجوم البري التركي في أي لحظة، كما أعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية باتريك رايدر أن بلاده تتواصل مع تركيا بشأن التصعيد العسكري المنتظر في الشمال السوري.

وهذه التحركات تمثل من وجهة النظر الكردية تخلّي الإدارة الأمريكية عن الأكراد مجددا كما حدث أكثر من مرة؛ فعلى على سبيل المثال لا الحصر، سبق أن شعر الأكراد بأن واشنطن تخلت عنهم عام 2019، حينما أعطت لأنقرة الضوء الأخضر للقيام بعمليتها العسكرية الثالثة ضدهم، التي أدت إلى سيطرتها على شريط حدودي بطول 120 كيلومترا بين مدينتي تل أبيض ورأس العين.

عناصر التنظيمات المسلحة والهتاف ضد واشنطن

وهو أمر يبدو أنه دفع عناصر التنظيمات المسلحة وداعميهم في الشمال السوري هذه المرة إلى الخروج في احتجاجات رافعين شعار “الموت لأمريكا”، مما يعني أن هناك مخاوف حقيقية، وشعورا قويا بالقلق بدأ ينتابهم من موقف واشنطن، مع احتمال أن تكون مصالح واشنطن معهم قد انتهت فعليا، وأن التحالف بينهما لم يعد قائما، وما يمكن أن يواجهوه جراء هذا الأمر خلال الفترة المقبلة، خصوصا أنهم علقوا آمالا كبيرة على الدعم الأمريكي لهم وحمايتهم من الآلة العسكرية التركية التي تهدد وجودهم، وتنذر بالقضاء على حلم إقامة دولتهم المستقلة عن دمشق.

لكن حقيقة الأمر، والرصد الدقيق للتحركات الأمريكية على أرض الواقع يشيران إلى عكس ذلك تماما، بل يؤكدان أن واشنطن لا تزال راغبة في الاحتفاظ بعلاقات متميزة مع الفصائل الكردية المسلحة، رغم تحفظها على أدائهم، وأنها لم تفقد الأمل بعد في الوفاء بتعهداتها لهم.

وهو ما يتضح بصورة جلية في قيام مسؤولي وزارة الدفاع الأمريكية بتحذير قوات سوريا الديمقراطية من الهجوم التركي على مناطق سيطرتها، وتحديد النقاط التي سيتم استهدافها من جانب القوات التركية خلال عمليتها البرية.

محاولات أمريكية لعرقلة العملية العسكرية التركية

إلى جانب ذلك بدأت إدارة بايدن اتخاذ خطوات أكثر فاعلية لحماية العناصر الكردية المسلحة، وتهيئة الأرضية لعرقلة الهجوم التركي، إذ تم تكثيف اتصالاتها مع أطراف كردية مختلفة عبر ممثلين عن وزارة خارجيتها، قاموا بممارسة ضغوط شديدة بهدف إعادة إحياء الحوار الكردي الكردي، بين حزب الاتحاد الديمقراطي المسؤول عن قسد، وأحزاب المجلس الوطني الكردي المدعوم من جانب أنقرة، وذلك لتخفيف حدة الاندفاع التركي صوب العملية العسكرية، ومنح الفرصة كاملة أمام إجراء مفاوضات يمكن من خلالها انسحاب قوات قسد مسافة 30 كيلومترا كما تريد أنقرة، وإحلال عناصر من الجيش السوري بدلا منها، وهو الأمر الذي ترغب فيه أيضا كل من روسيا وبشار الأسد.

ونصح الأمريكان قيادات قسد بضرورة إظهار بعض المرونة وتلبية المطالب التركية، التي تتمحور حول الانسحاب مسافة 30 كيلومترا، وسحب كافة أنواع أسلحتهم الثقيلة عند مغادرتهم، وتسليم عدد من قيادات حزب العمال الكردستاني الذين تضعهم أنقرة على لوائح المطلوبين لقيامهم بعمليات إرهابية ضدها، وذلك في محاولة  تهدف إلى إرضاء أنقرة للتخفيف من حدة غضبها، وثنيها عن تنفيذ عمليتها البرية.

وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد قامت من قبل بإجراء عدة تعديلات عسكرية في المنطقة، من بينها إعادة إحياء مشروع حماية المواقع النفطية في سوريا، الذي تم تجميده بداية تولي إدارة بايدن السلطة خلفا لدونالد ترامب، كما قامت بتقسيم المناطق التي تسيطر عليها قسد، حيث احتفظت القوات الأمريكية بحماية المواقع النفطية والمناطق المحيطة بها، في حين عهدت بتأمين المناطق غير النفطية القريبة من خط الحدود مع تركيا لعناصر قسد.

وعلى صعيد متصل وخلال زيارات متلاحقة لمسؤولين أمريكيين لمناطق تمركز قوات قسد، أبدت واشنطن امتعاضها من رد قيادات قسد كلما أعلنت أنقرة عن قيامهما بعملية عسكرية في الشمال السوري، والتهديد بخروج قسد من التحالف الدولي، وفتح سجونها التي تحتجز فيها آلافا من عناصر تنظيم داعش. وطالب المسؤولون الأمريكيون بضرورة إعادة هيكلة القيادات العسكرية، واستبعاد العناصر المشكوك في انتمائها، بعد أن لوحظ تسريب العديد من المحادثات والخطط العسكرية التي يتم الاتفاق عليها بين الجانبين، إلى الجانب الروسي.

كما أبدت واشنطن غضبها من محاولة قيادات قسد التواصل مع بشار الأسد، خصوصا بعد أن فشلت المباحثات التي جرت بينهما خلال الأيام الماضية بدعم من روسيا، إذ ترى واشنطن أن أي محاولات للتقارب بين قسد والنظام السوري ستصب في صالح إيران وحزب الله، وهو ما يمكن أن يمثل خطرا على وجود قواتها في شرق الفرات، ويهدد بإمكانية عدم قدرتها على الوفاء بما تعهدت به سابقا.

الامتعاض والغضب لا يعنيان بطبيعة الحال إنهاء التحالف الأمريكي مع قسد، بل يأتيان في إطار النصائح الرامية إلى تهدئة الوضع إلى حين، وذلك ضمن سعي واشنطن لحماية الفصائل المسلحة فعليا، مع الاكتفاء بطمأنة تركيا ودعمها من خلال تصريحات شفهية لا تسمن ولا تغني من جوع، وهو ما يعني أن الإدارة الأمريكية لم تتخل عن سياسة اللعب على جميع الحبال، وأن على تركيا حماية مصالحها، والحفاظ على أمنها القومي بالطرق التي تراها مناسبة.

المصدر : الجزيرة مباشر