نوادر آل شاكر (3/2).. الشيخ أحمد شاكر يفتي ضد والده!

كان للشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر الشريف ذرية مباركة، نبغ منها ولمع نجم القاضي المحدث أحمد محمد شاكر، والعلامة الأديب محمود محمد شاكر.

ولد الشيخ المحدث أحمد شاكر في 29 يناير/كانون الأول سنة 1892 بالقاهرة، في الفترة التي كان فيها والده الشيخ محمد شاكر أمينًا للفتوى مع الشيخ العباسي المهدي مفتي الديار المصرية آنذاك، وبعد تعيين الشيخ محمد شاكر قاضيًا للقضاة بالسودان 1900م انتقل معه ابنه أحمد إلى هناك، وانتظم في الدراسة حتى عاد والده إلى مصر لتولي مشيخة علماء الإسكندرية 1904م، وهو ثاني أرفع مناصب الأزهر الشريف، والتحق الابن أحمد شاكر بمعهد الإسكندرية الديني الذي أصبح والده شيخًا له، وفي سنة 1909م انتقل الشيخ الوالد محمد شاكر ليكون وكيلًا للأزهر، ودرس ابنه أحمد في المراحل الأزهرية حتى حصل على شهادة العالمية 1917م، مع دراسته وتلمذته على والده الذي حرص على تعهد نبوغه وتوجيه مواهبه، وقد أحسن الابن بدوره الاستفادة من بيت العلم الذي نشأ فيه، من خلال من يفد على والده من كبار العلماء، ولاسيما علماء الحديث؛ فلم يترك محدثًا معاصرًا له إلا جلس إليه وتعلم على يديه، وكما درس في الأزهر الشريف على الشيخ محمود أبو دقيقة الفقه وأصوله، أخذ عن الشيخ أحمد الشنقيطي إجازة بجميع علومه، كما أخذ عن الشيخ المحدث عبد الله إدريس السنوسي عالم المغرب، إجازة برواية البخاري وبقية الكتب الستة، ولقي الشيخ محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي عندما زار مصر وتأثر بتوجهه السلفي وبعده عن التعصب، كما لقي الشيخ طاهر الجزائري عالم الشام الرحالة، ولقي الإمام محمد رشيد رضا صاحب المنار.

العمل بالقضاء

بعد حصول الشيخ أحمد محمد شاكر على الشهادة العالمية من الأزهر الشريف عمل مدرسًا مدة سنة، ثم انتقل للعمل بالقضاء، وتدرج في وظائف القضاء الشرعي حتى أصبح عضوًا في المحكمة الشرعية العليا، وفي يناير 1952م أصبح رئيس المحكمة العليا الشرعية، وهو أعلى مناصب القضاء الشرعي، وظهر خلال هذه الفترة نبوغه الفقهي وتبحره في المذاهب الفقهية مع عدم تقيده بها، ورجوعه إلى ما ورد عن السلف وما اعتمدوا عليه من أدلة. ومع اعتماد القضاء المصري على المذهب الحنفي وهو مذهبه في المراحل الأزهرية، وتلقيه شرح الهداية عن والده، فإنه في مرحلة الكتابة والتحقيق شرح كتاب الرسالة للإمام الشافعي وقال: “لو جاز لعالم أن يُقلِّدَ عالمًا كان أولى الناس عندي أن يُقلَّد الشافعي، فإني أعتقد -غير غالٍ ولا مسرف- أن هذا الرجل لم يظهر مثلُه في الإسلام، في فقه الكتاب والسنة، ونفوذ النظر فيهما ودقة الاستنباط، مع قوة العارضة، ونور البصيرة، والإبداع في إقامة الحجة وإفحام مناظره، فصيح اللسان، ناصع البيان في الذروة العليا من البلاغة”.

وبعد بلوغه سن التقاعد من القضاء تفرغ للتحقيق بصفة عامة، ولعلوم الحديث بصفة خاصة، فلم يترك الشيخ أحمد محمد شاكر بابا من أبواب العلم إلا وترك فيه بصمة ظاهرة وعملا جليلا، معتبرا التحقيق الفرض المتعين عليه، وكان لعلوم الحديث النصيب الأكبر من ذلك، حتى أصبح إماما فيه ومرجعا يرجع إليه، ولعل من أعظم تحقيقاته تحقيق مسند الإمام أحمد، وله عدة تحقيقات لكتب متعلقة بالمسند، ولعمله في أكثر من كتاب في آن واحد بقي بعض تحقيقاته من دون أن يكمله.

جعل الشيخ أحمد شاكر همه التحقيق وصرف همته إليه، ولكنه فضلا عن ذلك أنجز عددًا من المؤلفات المهمة في مجال عمله بالشريعة والقضاء، ولم تكن من جملة ما تزين به المكتبات أو تزاد به قائمة المؤلفات، وإنما كانت تأدية لواجب البلاغ وتصحيحا للانحراف عن الأصول ورعاية للثوابت ومنها:

ـ «الشرع واللغة» (1944).

الذي رد فيه على دعوة عبد العزيز فهمي إلى كتابة اللغة العربية بالأحرف اللاتينية وهي أولى خطوات قتل اللغة ثم دفنها.

ـ «الكتاب والسنّة يجب أن يكونا مصدر القوانين» ردا على الانسلاخ من التحاكم إلى شرع الله، وهدي رسوله ﷺ إلى قوانين الغرب ودساتيره.

ـ «كلمة الفصل في قتل مدمني الخمر» (1951).

بعد الاستهانة بإدمان الخمر، وتغييب العقل، دعا إلى تغليظ العقوبة على المدمن المستهتر، مستدلا بما رواه النسائي من طريق ابن عمر ونفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: “من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه”. وذكر الشيخ أحمد شاكر في التعليق عليه: “وهذا نص صريح صحيح، رواه ابن حزم في المحلى من طريق النسائي بهذا الإسناد واللفظ، ورواه الحاكم في المستدرك بنصه وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

مجلة الهدي النبوي

وجمع الشيخ أحمد شاكر إلى جوار التأليف والتحقيق والتحديث، الإشراف على تحرير مجلة «الهدي النبوي» سنة (1370هـ)، وكان يكتب بها مقالًا ثابتًا بعنوان: «اصدع بما تؤمر»، وقد جمعت بعض هذه المقالات ونشرت في كتاب بعنوان «كلمة الحق»، طبعته دار الكتب السلفية.

وجاء في هذه المقالات جملة من الفتاوى القوية والآراء الصادعة، من رجل غير هياب ولا وجل، وكثيرا ما كان يُحذّر من سطوة الغرب ومحاولات فرض فكره وثقافته، ومن ذلك قوله:

“نريد أَن نحارب الوثنية الحديثة والشرك الحديث، اللذين شاعا في بلادنا وفي أكثر بلاد الإسلام، تقليدًا لأُوروبا الوثنية الملحدة، كما حارب سلفنا الصالح الوثنية القديمة، والشرك القديم”.

“وأَرى أنْ قد آنَ الأوانُ لنقول كلمة الحق، بلادُنا وبلاد الإسلام تنحدر في مجرى السَّيْل، إلى هُوَّة لا قرار لها، هُوَّةِ الإلحاد والإباحية والانحلال، فإن لم نقف منهم موقف النذير، وإن لم نأخذ بِحُجِزِهم عن النار انحدرنا معهم، وأصابنا من عَقَابيل ذلك ما يصيبهم، وكان علينا من الإثم أضعاف ما حُمِّلوا”.

النوادر

ومن نوادر آل شاكر أن الإمام محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر، كان يرى الأخذ بالحساب الفلكي في إثبات أوائل الشهور القمرية، وله فتوى بجواز ذلك، عارضه فيها فريق من العلماء كان في طليعتهم الشيخ محمد شاكر، وكان ابنه الشيخ أحمد ينتصر لوالده ويرى رأيه، وكتب عدة مقالات تؤيد الرؤية البصرية، ثم بدا له بعد التحقيق وتناول المسألة بروية، وإعمال الفكر وإعادة النظر، ما يخالف وجهة نظر والده، فأخرج رسالة صغيرة في حياة أبيه بعنوان: “أوائل الشهور العربية هل يجوز شرعًا إثباتها بالحساب الفلكي؟”، رجع فيها إلى رأي الإمام المراغي، وأعلن في صراحة أنه كان على صواب، وقال: “كان والدي وكنت أنا وبعض إخواني ممن خالف الأستاذ الأكبر في رأيه، ولكني أصرح الآن أنه كان على صواب، وأزيد عليه وجوب إثبات الأهلة بالحساب في كل الوقت إلا لمن استعصى عليه العلم”.

ومن أشهر فتاوى الشيخ أحمد محمد شاكر التي جاءت في كتاب كلمة الحق رده على سؤال عن حكم من يتعاون مع المحتل ضد شعبه ووطنه، إذ قال:

“أما التعاون مع المحتل بأي نوع من أنواع التعاون  قلّ أو كثر، فهو الردّة الجامحة والكفر الصّراح، لا يقبل فيه اعتذار، ولا ينفع معه تأول، ولا ينجي من حكمه عصبية حمقاء ولا سياسة خرقاء، ولا مجاملة هي النفاق سواء أكان ذلك من أفراد أو حكومات أو زعماء، كلهم في الكفر والردة سواء، إلا من جهل وأخطأ، ثم استدرك أمره فتاب وأخذ سبيل المؤمنين، فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم”.

ومع حرصي على اختصار المقال والاكتفاء بضرب المثال، فقد وجدتني أكرر في الختام ما قاله الأستاذ المحقق عبد السلام هارون: ” الشيخ أحمد محمد شاكر إمام يَعْسر التعريف بفضله كل العسر، ويقصر الصنع عن الوفاء له كل الوفاء”.

توفي يوم السبت 26 ذي القعدة سنة (1377هـ) الموافق 14 يونيو/حزيران سنة (1958م)، عليه سحائب الرضوان.

المصدر : الجزيرة مباشر