في ذكرى مؤتة.. أمنيات ورسائل وبث مباشر من نوع مختلف

 

في مثل هذه الأيّام من شهر جمادى الأولى من السّنة الثّامنة للهجرة، أرسل النبيّ ﷺ جيشًا إلى مؤتة في مشارف الشّام، وهي اليوم مدينة الكرك جنوبي الأردن، للردّ على قتل رسوله الحارث بن عمير الأزديّ الذي قتله شُرَحْبِيل بن عمرو الغساني؛ والي قيصر على البلقاء؛ فقتل السفراء هو إعلان حرب يستوجب ردًّا.

أمنيات من نوع مختلف

كان عدد الجيش الإسلاميّ ثلاثة آلاف مقاتل، وقد عيّن عليه رسول الله ﷺ الأمراء، فقال: “أمير النّاس زيد بن حارثة، فإن قُتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قُتل فعبد الله بن رواحة، فإن قُتل فليرتضِ المسلمون منهم رجلًا فليجعلوه عليهم”.

وهنا نلحظ أنّ النبيّ ﷺ قدّم في قيادة المعركة -التي يتوقّع أن تكون حامية الوطيس- ثلاثة من أحبّ النّاس إلى قلبه، أحدهم كان قد تبنّاه من قبل لشدّة حبّه له والآخر ابن عمّه، وفي هذا رسالةٌ إلى الذين يتقدّمون مواقع القيادة أنّ القائد الحقّ هو الذي يقدّم أحبابه وأقرباءه إلى ساحات المغارم والفداء لا إلى مواقع المغانم والنفع المريح.

وعند وداع النبيّ ﷺ لهم حدث موقفان لافتان من أحد قادة الجيش، وهو عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، الأوّل؛ حين بكى ابن رواحة، فقالوا‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ فقال‏:‏ أما والله ما بي حبّ الدّنيا، ولا صبابةٌ بكم، ولكنّي سمعت رسول الله ﷺ يقرأ آيةً من كتاب الله يذكر فيها النار ‏‏‏{‏وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا‏}، فلست أدري كيف لي بالصّدور بعد الورود‏؟

والموقف الثّاني؛ عندما ودّع المسلمون الجيش قائلين‏:‏ صحبكم الله بالسّلامة، ودفع عنكم، وردّكم إلينا صالحين غانمين، فالتفتَ إليهم عبد الله بن رواحة، وارتجلَ قائلًا:

لكِنَّني أَسأَلُ الرَحمَنَ مَغفِرَةً

وَضَربَةً ذاتَ فَرغٍ تَقذِفُ الزَبَدا

 

أَو طَعنَةً بِيَدَي حَرّانَ مُجهِزَةً

بِحَربَةٍ تُنفِذُ الأَحشاءَ وَالكَبِدا

 

حَتّى يُقالَ إِذا مَرّوا عَلى جَدَثي

أَرشَدَهُ اللَهُ مِن غازٍ وَقَد رَشَدا

أجل؛ أمنية قائد الجيش لم تكن نياشين يزيّن بها صدره، ولا استعراض بطولاتٍ وهميّة وصناعة انتصاراتٍ خُلّبية، كانت أمنيته نجاةً من النّار يوم القيامة، وشهادةً في الدّنيا على وجه يحقّق فيه نكايةَ أعدائه، وهذا هو الرّشد الحقيقيّ في نظر ابن رواحة، وما أعظمه من رشد!

كما أنّ قول النبيّ ﷺ: “فإن قُتل فليرتضِ المسلمون منهم رجلًا فليجعلوه عليهم” فيه رسالةٌ واضحةٌ على أنّ المسلمين هم من يختارون من يقودهم حتّى في أقسى الظّروف، ولو كان ظرف التحام بالعدوّ في ساحة المعركة، ولا بدّ أن يرتضوا هذا القائد، فلا مكان في الإسلام لقائدٍ يتغلّب على النّاس بقوّة السلاح ويجثو على صدورهم وهم له كارهون، وهذا تعليمٌ من النبيّ ﷺ لأصحابه على منهجيّة الاختيار للقائد وهو لا يزال على قيد الحياة، حتّى إذا غاب عنهم لم يقبل المسلمون بقائد ينقلب عليهم بقوّة السلاح أو يصل إلى سدّة الحكم بغير رضى منهم.

بث مباشر من نوع مختلف

لمّا انطلق الجيش الإسلاميّ من المدينة، بلغت الأخبار هرقلَ فجمع لهم مئتي ألف مقاتل؛ مئة ألف جمعهم هو ومئة ألف جمعهم شرحبيل بن عمرو؛ فلكَ أن تتخيّل أن تكون المواجهة بين ثلاثة آلاف مقاتل مقابل مئتي ألف مقاتل وعلى الأرض التي يخبرونها جيدًا ويعرفونها تمامًا بينما لم يختبرها المسلمون من قبل.

وعندما بدأت المعركة في مؤتة، في مسافة تتجاوز ألف كيلو متر عن المدينة المنوّرة، جمع النّبيّ ﷺ مَن بقي مِن أهل المدينة في المسجد، ووقف على المنبر، وبدأ ينقل وقائع المعركة في بثٍّ حيّ ومباشر، وأخذ يحدّث النّاس عمّا يبذله الصّحب الكرام في هذه الملحمة، ونعى على المنبر قادة الجيش الثلاثة الذين كانوا في مقدّمة شهداء المعركة، وهو ﷺ يبكي على المنبر.

أخرج البخاريّ في صحيحه، قال: خطب رسول الله ﷺ، فقال: “أخذ الرّاية زيدٌ فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب -وعيناه تذرفان- ثم أخذها سيفٌ من سيوف الله حتّى فتح الله عليهم”.

وقال ابن حجر: “وقع في المغازي لموسى بن عقبة -وهي أصحّ المغازي- قوله: ثمّ أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فقُتل، ثمّ اصطلح المسلمون على خالد بن الوليد؛ فهزم الله العدوّ وأظهر المسلمين”.

لقد نقل رسول الله ﷺ هذه المعركة على خلاف غيرها من السرايا لأهميّتها وعظيم أثرها وعظيم ما فيها من الفداء والتّضحية، فبكى رسول الله ﷺ على أصحابه الشّهداء، وبكاؤه لا يتنافى مع الرّضا بل هو شفقة القلب ورحمة الإنسان الكامل، كما أنّ في هذا البثّ تسجيلَ فضيلة لخالد بن الوليد رضي الله عنه؛ فهو في هذا اليوم تمت تسميته سيف الله المسلول، وهو لقب سيصاحبه إلى قيام الساعة تشريفًا وتكريمًا.

لم تكن هذه كلّ تفاصيل تلك الغزوة التي استمرّ القتال فيها ثلاثة أيّام، وانتهت باستشهاد اثني عشر رجلًا من أصحاب النبيّ ﷺ بينهم قادة الجيش الثلاثة، وسجّل فيها خالد بن الوليد انتصارًا حقيقيًّا على الرّوم بحنكته وعبقريّته العسكريّة؛ إنّما هي شذراتٌ في ذكرى المعركة، وتطوافٌ على أمنياتٍ عظيمة للرّجال الكبار، ولفت للأنظار إلى بثٍّ مباشر من نوعٍ مختلف في زحمة البثّ المباشر هذه الأيّام؛ فلعلّها ذكرى تنفع من كان له قلبٌ أو ألقى السّمع وهو شهيد.

المصدر : الجزيرة مباشر