العلاقة التاريخية بين الدين والعلمانية

إن الإنسان يميل في أحيان كثيرة إلى قبول فكرة الاختلاف الكبير بين عصره الذي يعيش فيه والأزمنة السابقة عليه. ويأتي ذلك الاعتقاد غالبا من الشعور بالغربة والحنين إلى الماضي أو ما يمكن أن نطلق عليه محاولة استعادة العصر الذهبي للحضارة الذي ابتعد عن واقعنا كثيرا، أو محاولة إحراز التفوق والتقدم على ما وصل إليه. ويعكس كلا الموقفين الرغبة في التعبير عن الخبرة الشخصية الخاصة بالعصر أو الإنسان الذي يعيش فيه، بصورة مختلفة عن الآخرين. هذا المنهج لم يكن موقفا خاصا انفرد به الإنسان المعاصر كما يظن البعض. فعلى مر التاريخ، سارت الإنسانية في الطريق ذاته، وكانت لديها الطموحات نفسها، حتى أن القرآن قد ذكر في كثير من الأحيان: {الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}، وأكد أن السابقين رأوا أنفسهم أيضا أكثر قوة وآثارا في الأرض، وأنهم أصبحوا الأكثر تفوقا على الإطلاق.
وحين ننطلق من تلك الفكرة السابقة، نجد أن الحداثة قد أُسِّست على مفهوم الوجود الذي يبني فيه الإنسان المعاصر نفسه منطلقا من إحساس كبير بالفخر والتفوق، الأمر الذي يقيم علاقة مختلفة بينه وبين الطبيعة، وبينه وبين الله، وبينه وبين الزمان والمكان.
وعندما ندقق النظر في مكونات هذا المفهوم ونظرته إلى العالم، نرى أن التاريخ يتجدد ويعيد نفسه من حين إلى آخر، فليس هناك شيء جديد لم يسبق له مثيل في أي فترة من ذلك التاريخ، لا سيما عندما نبحث في موضوع العلاقة بين الدين والعالم والإنسانية، يمكن بسهولة قبول أن هذا الصنف من الناس وتلك العقليات والمواقف تجاه الطبيعة والله، على مدار التاريخ، قد عاد إلى الظهور مجددا في ثوب الحداثة.
تصور إنساني باسم الدين
إن الفكرة القائلة بأن بعض الناس يرون أنفسهم متفردين ومتفوقين ومختلفين عن الآخرين هي تصور إنساني يتكرر باسم الدين من حين إلى آخر في التاريخ. وعلى الرغم من ذلك، فلا يمكن تجاهل أن هذا التكرار له شكل مختلف في كل مرة مع اختلاف الجهات الفاعلة والبيئة التي يخرج منها، فكل إناء ينضح بما فيه، وكل خروف معلق برجليه، ولكل إنسان بصمته وأصالته ومسؤوليته وتفرّده. ومن ناحية أخرى، لا جديد تحت الشمس، قديما قال عنترة العبسي “هلْ غادرَ الشعراءُ مِن متردمِ …”، وكرّر ذلك مارتن هايدجر “بالطبع لا جديد تحت الشمس، وقد جاء قبلي من قال ما أقوله الآن، لكن الجديد أنني أقولها هنا والآن”.
في كل فترة من التاريخ وفي جميع مناطق العالم، حيثما وُجد المجتمع البشري، ظهر الدين نمطا للسلوك البشري ومؤسسة اجتماعية. ونتيجة لذلك، ظهرت حركات متعددة مناهضة للدين والتدين بأي شكل من الأشكال، فرفضت الحياة تحت مظلة الدين، ورفضت فكرة استيعاب الدين لكل مظاهر الحياة، وسعت تلك الحركات إلى إيجاد طرق وأساليب جديدة بديلة.
وفي العصر الحديث، نجد المشروع الحداثي يسير على النهج نفسه في معارضته الدين وسعيه لتجاوز معطياته والحديث عن نمط جديد للحياة، ويتكئ على أصالة ذلك الموقف في تاريخ الإنسانية، بدعوى أصالة وجود الموقف العلماني تجاه الدين في المجتمعات القديمة. فرغم أن ذلك المشروع العلماني يتحدث باسم الحداثة، فإنه في الوقت نفسه يدعي الأصالة أيضا، لكي يجد لنفسه مقعدا في الصفوف الفكرية الأولى. ويُذكِّر دائما بالصراع التقليدي بين الخطاب الديني والعلمانية على المستويين الداخلي والخارجي.
يعبّر ماكس ويبر عن تميز صورة العلمانية والحداثة في العصر الحديث بعبارة “خيبة الأمل في العالم/ضياع العالم”. وهو في تعبيره “خيبة الأمل في العالم” يقصد الحاجة إلى البحث في العالم ذاته عن سبب الحوادث والظروف التي يمر بها العالم نفسه، والتخلي عن السعي لإيجاد أسباب من خارج العالم، من السماء أو من عالم الروح الذي ينعته البعض بالخيال أو العالم السحري. وعلى الرغم من أن هذا التفكير يميز موقف الحداثة، فإنه موقف ليس جديدا، بل كان موجودا دائما جنبا إلى جنب مع الدين في كل فترة من التاريخ.
ومن المثير للاهتمام أن “العالم السحري/الخيالي” -على حد وصف ماكس ويبر- عالَم يؤمن بالسماء، كبعد يميز المجتمع، أصبح عالَما ليس له نظير على أيدي المسلمين المؤمنين بالإله الواحد. فالعالَم عند المسلمين لم يكن أبدا عالما سحريا كما كان عند المسيحيين الذين نشأ بينهم ماكس ويبر ومن هم على شاكلته. رغم وجود بعض الأشخاص الذين سعوا وراء هذا المفهوم للعالم السحري تحت تأثيرات ثقافية مختلفة، فإن هذه الرؤية لم تصل إلى مستوى الظاهرة العامة المنشرة عند المسلمين.
في الدين الإسلامي، الله هو السبب المطلق للوجود والخالق والمدبر لكل ما يحدث في ذلك الكون، وسُنّة الله في خلقه لم ترفض فكرة السببية بل دعت إلى الأخذ بالأسباب المنطقية للوصول إلى النتائج، فالله الذي خلق كل شيء قد جعل لخلقه سُنّة لن تجد لها تبديلا. فالإيمان بعدم وجود سبب مطلق غير الله، يمنع وصف حدوث العالم بأنه حدث سحري أو خيالي قائم على المصادفة، بل ويجعل السحر والخيال والشعوذة التي يتغنى بها أصحاب الحداثة، أمرا لا يتطابق إلا على الوثنية وحدها. لذلك، فإن استحضار مناهج “ويبيري” وتحليلاته العلمانية وتفسيراته التي لا تتناسب أبدا مع الإسلام والعالم الإسلامي، وبذل الجهود في تطبيقها على العالم الإسلامي، كان خطأ كبير وجهدا في غير محله. فالواقع قد أظهر مشاكل ومصائب تطبيق هذه التحليلات وتوظيفها في العالم الغربي، أي البيئة التي ظهرت فيها تلك التحليلات. ففي حين كانت العلمانية تنتظر أن تُظهر نتائجُ مجهودات أبنائها زيادةَ تأثيرها وتناقص دور الدين في العالم، فإنها تصطدم بحقيقة اتساع مساحة تأثير الدين وزيادة فاعليته في النواحي السياسية والاجتماعية الحياتية المختلفة.
نصف الحقائق
ولا يزال الحداثيون يضللون مَن خلفهم ويخلطون عليهم الأمور، حين يُظهرون لهم نصف الحقائق والنتائج التي وصلوا إليها، فقد ذكرت نتائج دراسة “بيتر بيرجر” و”توماس لاكمان” أن التنصير الرئيسي في التاريخ الأوربي حدث في العصر الحديث، أي في الفترة التي كانت فيها العلمنة هي السائدة، كما أن المظاهر الدينية كانت واضحة في كل مكان في العصور الوسطى، حيث كان الدين هو الأكثر حسما وفاعلية. ولا يخفى على أحد ما في تلك النتائج من ضلالات، وضلالها يظهر عندما نعرف أن الدين السائد في تلك الفترة هو نوع من الوثنية المنتشرة للغاية والبعيدة عن المسيحية.
وحينما تُسمّى الأشياء بغير مسمياتها، فتنطلق الجماهير العريضة وراء مدلولات وهمية، كما فعلت في علاقتها بالمسيحية المتشحة بوشاح الوثنية، وتبنوها في أدبياتهم وحياتهم وتمدنهم، يمكننا مقارنة ذلك بالوضع الذي أصبح فيه التدين مختلفا شكلا ومحتوى أثناء بناء المدنية في تركيا الحديثة.