محور العصيان ضد هيمنة الدولار

 

(1) البداية إيران

يبدو منطقيًا أن تتمرد دولة أو أكثر على النظام المالي العالمي، لكن أن يقرر هذا النظام إخراج دولة منه عقابًا لها فهذا أمر غريب، ويؤكد أن هذا النظام له توجهات سياسية وليس نظامًا ماليًا محايدًا.

هذا ما حدث في عام 2012 حين قرر الغرب فرض عقوبات على إيران بسبب برنامجها النووي، وتم فصل البنوك الإيرانية عن نظام سويفت، وقُدرت خسارة إيران حينها بما يقرب من نصف عائدات تصدير النفط و30% من التجارة الخارجية.

و”سويفت” نظام مالي عالمي يسمح بانتقال سلس وسريع للمال عبر الحدود، وكلمة SWIFT اختصار لـ”جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك” ومركزها بلجيكا، وقد أنشئ هذا النظام عام 1973، ويربط نظام سويفت 11 ألف بنك ومؤسسة في أكثر من 200 دولة، فهو نظام مراسلة فوري يخبر المستخدمين بموعد إرسال المدفوعات وتسلمها.

ويرسل هذا النظام أكثر من 40 مليون رسالة يومية، إذ يتم تداول تريليونات الدولارات بين الشركات والحكومات، وأنشئ نظام سويفت من قبل بنوك أمريكية وأوربية، كانت ترغب في ألا تسيطر مؤسسة واحدة على النظام المالي وتطبق الاحتكار، والشبكة الآن مملوكة لأكثر من 2000 بنك ومؤسسة مالية.

يساعد نظام سويفت في جعل التجارة الدولية آمنة لأعضائه، وليس من المفترض أن ينحاز إلى أي طرف في النزاعات، ولكن ما يحدث غير ذلك، فهذا النظام يتأثر بقرارات دول الاتحاد الأوربي وأمريكا، وما حدث مع إيران تكرر مع روسيا بعد عملياتها العسكرية في أوكرانيا، لكن هذا العقاب القاسي والمكلف ماديًا والمعرقل للتجارة الدولية ساعد على تطوير أنظمة مالية بديلة لسويفت.

(2) البديل الروسي

في عام 2014، وعلى خلفية تهديدات واشنطن، بطرد موسكو من نظام سويفت بعد ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا الاتحادية على إثر استفتاء بين سكانها، أعلن رئيس البنك المركزي الروسي عن بديل لنظام سويفت يمكن للمتعاملين استعماله داخليًا وخارجيًا، وأكد أن البنية التحتية المالية الروسية ستعمل من دون أعطال، ويسمى النظام الروسي البديل SPFS، لكنه ما زال نظامًا محدودًا.

والصين أيضًا لديها نظام دفع متطور بين البنوك يسمي CIPS، ولقد بدأت في تأسيسه منذ أعوام تخوفًا من عقوبات أمريكية تخرجها من نظام سويفت بعد تدهور العلاقات بين البلدين بسبب المنافسة الاقتصادية.

ومن قبل تم ربط المصارف الإيرانية بالنظام الروسي البديل لـ”سويفت” الذي يتم عن طريقه تبادل المعاملات التجارية والمالية بين البلدين بعملتهما الوطنية.

(3) الهروب من قبضة الدولار

منذ أغسطس عام 1971 حين قرر الرئيس الأمريكي نيكسون كسر ارتباط الدولار بالذهب، لم يعد الدولار عملة مضمونة وآمنة، لكنه أصبح عملة مهيمنة، واستقر الأمر على أنه في حال ارتفعت قيمة الدولار وانخفضت، ستضطر الدول جميعها إلى استخدام الدولار في تجارة النفط والسلع.

من الواضح الآن أن روسيا والصين وإيران ودول أخرى، تتحرك نحو التحرر من قبضة الهيمنة الدولارية، وهناك سعي لإنشاء نظام نقدي دولي على أساس معيار الذهب أو يلعب الذهب فيه دورًا أكبر، كما تجري الصين وروسيا مناقشات حول إنشاء تصنيف ائتماني دولي جديد وتأسيس وكالة مستقلة عن وكالات الائتمان الأمريكية التي يتم التلاعب بها سياسيًا، كما أن مجموعة بريكس تعمل على إيجاد بديل لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين تسيطر عليهما واشنطن، وتسعى المجموعة لإنشاء بنك البريكس للبنية التحتية وصندوق العملة.

لو نجحت هذه الدول وفي مقدمتها الصين وروسيا في الانفصال عن النظام المالي الدولي الحالي المحتكر من قبل أمريكا على وجه الخصوص، لن يعود للدولار هيمنته الحالية على المعاملات التجارية الدولية، حيث سيتم إجراء المبادلات التجارية بالعملات الوطنية، وستخسر أمريكا ورقة ضغط كبرى كانت تستخدمها لمعاقبة الدول التي تخرج عن طاعتها، وكذلك ستفقد المؤسسات المالية الموالية لها، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تأثيرها على الدول المتعثرة اقتصاديًا، وإلزامها بسياسات اقتصادية تجبرها على خفض قيمة عملاتها، والدخول في حلقات متوالية من الانهيار الاقتصادي لا تعود بالفائدة على شعوب هذه الدول، بل تزيد من تعثرها الاقتصادي وعدم استقراها الاجتماعي.

من الواضح أن الصين وروسيا وإيران ودول الاقتصاديات الناشئة الأخرى تعيد حساباتها، ولقد صرح مؤخرًا نائب رئيس الوزراء الروسي، ألكسندر نوفاك، أن البنوك المركزية في روسيا والصين تعمل على تطوير نظام للتسويات المالية المتبادلة بعيدًا عن نظام “سويفت” العالمي، نظام لتبادل البيانات حول التحويلات والمدفوعات وبورصات الأوراق المالية عبر شبكة خاصة.

وأضاف نوفاك أن طبيعة العلاقات التجارية بين روسيا والصين، تقتضي الانتقال إلى التسويات بالعملات الوطنية، ولو تم بالفعل تطوير نظام صيني-روسي بديلًا عن نظام سويفت، يمكنه استيعاب عدد كبير من بين البنوك والمؤسسات المالية، بشكل دقيق وآمن ومنتظم ويتعامل بالعملات الوطنية، سيكون ذلك مسمارًا كبيرًا في نعش الدولار وهيمنة النظام المالي الحالي.

والمؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذه المساعي ومحاولات التملص من هيمنتها الاحتكارية على النظام المالي العالمي، فالمساعدات غير المحدودة التي تقدمها الإدارة الأمريكية الحالية لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، ليست دفاعًا عن استقلال أوكرانيا ووحدة أراضيها كما تردد الإدارة الأمريكية والإعلام الغربي، ولكن دفاعًا عن هيمنة أمريكا في المجالات كافة، وفي المقدمة الهيمنة العسكرية التي أدت لهيمنة اقتصادية احتكارية.

المصدر : الجزيرة مباشر