2022.. الديمقراطية تُغرّد حول العالم إلا فضاء العرب المظلم

"أفراح البرازيل" بفوز لولا دا سيلفا

ختام مسك للديمقراطية هذا العام في مناطق جغرافية عديدة حول العالم، إلا جغرافية العرب؛ هذه المنطقة المتصحرة ديمقراطياً التي تعاند وتقاوم الحكم الرشيد والإرادة الشعبية بكل ما أُوتيت أنظمتها وسلطاتها وحكامها من قوة بطش وقهر وهيمنة وتسلط.

في تقديري أن 2022، هو عام البرازيل ولولا دا سيلفا بامتياز، كلاهما؛ البلد والشخص يدخلان التاريخ الديمقراطي من أوسع أبوابه.

البرازيل تواصل ترسيخ إرادة شعبها في الانتخابات التنافسية والاختيار الحر النزيه لمن يحكمها، هكذا تتقدم البلدان من باب السياسة ونمط الحكم وإتاحة الفرصة للناس للتعبير عن أنفسهم والإتيان بمن يحكمهم لتكون وظيفته خدمة شعبه صاحب الفضل عليه في دخوله قصر الحكم.

ومن الواضح أن القطيعة مع حكم الاستبداد والانقلابات قد انتهت في أمريكا اللاتينية، فهذه هى البرازيل تؤكد تداول السلطة؛ رئيس يرحل وآخر يأتي عبر صندوق الانتخابات الشفاف الذي يُتاح للجميع التنافس عليه بحرية وعدالة دون إقصاء أو عراقيل.

لولا دا سيلفا العائد للحكم

في البرازيل يعود الرئيس السابق لولا دا سيلفا للترشح والفوز وهو في الـ 77 من عمره، هذا اليساري الاجتماعي الديمقراطي العظيم، وفضل هذا الرجل على المسار الديمقراطي في بلده كبير، فقد انتهت فترتي رئاسته (2003 – 2011) وكانت شعبيته واسعة بسبب الإنجازات الاجتماعية والاقتصادية التي حققها لمواطنيه ونجاحه في القضاء على الفقر، وفي هذه اللحظة كان بمقدوره طرح تعديل دستوري لتسهيل الترشح مجدداً لكنه رفض حفاظاً على الديمقراطية التي كافح في سبيلها طويلاً منذ بدأ يدرك طبيعة الأزمة في بلاده وأسباب تردي الأوضاع فيها وهو غياب إرادة الشعب في تقرير مصيره وخضوع البلد للحكم بقوة الحديد والنار.

تأبيد الحاكم العربي في السلطة

وبسبب الآفة المزمنة في البلدان العربية من تأبيد الحاكم في السلطة وكثرة التعديلات الدستورية حتى يبقى في الحكم فيما يُسمى جمهوريات، فإن السياسة ميتة والمجال العام مغلق والأوضاع متدهورة في مختلف المجالات، وهذه سمات أساسية لكل أنماط الحكم، ولولا موارد طبيعية مثل النفط والغاز في بعض البلدان لتساوى كل العرب في أزمات الاقتصاد والحياة الاجتماعية والمعيشية.

لا علاج لكل أزمات العرب إلا بالسياسة التي هى ملك للجميع والديمقراطية التي هى نهج الحكم الوحيد القادر على تجاوز كل المشاكل وإنقاذ الشعوب والأوطان من الانهيار والفقر والجوع والحرمان والصراعات والاحترابات الأهلية، وكل بلد يمتلك من الموارد الطبيعية والبشرية ما يمكن أن يجعله مساويا لأي بلد متقدم من العالم الأول بالحكم الرشيد العادل فقط خلال سنوات قليلة.

الربيع الذي انتكس

تجربة الربيع العربي أثارت التفاؤل في القدرة على بناء تاريخ جديد من التطور والنهوض والعدالة والحريات لكن تم الحكم بالإعدام سريعاً على التجربة وشارك في صياغة وتنفيذ الحكم كل الأطراف؛ شركاء الربيع وأعداؤه في توافق غير مكتوب بينهم إنما بغباء وطمع أطراف الثورة والمتنطعين داخلها وخبث ودهاء واستبداد الكارهين لها.

إذا عدنا عشرين عاماً للوراء نجد التاريخ ينفتح للبرازيل بفوز لولا داسيلفا بالرئاسة ووصول اليسار الاجتماعي للحكم، وهو يسار عملي واقعي لا يخاصم الديمقراطية ولا يعتدي عليها ويتجاوب مع آليات الاقتصاد الحر ولا يتخلى عن الدور الاجتماعي للدولة ولا يحولها إلى تاجر مع أبنائها لهذا ينجح وتتكرر تجاربه من بلد لآخر في أمريكا اللاتينية، ففي هذا العام نجح اليسار لأول مرة في الوصول للحكم في كولومبيا، والمهم هنا أن الديمقراطية وتداول السلطة باتت من أساسيات البرازيل وكولومبيا وكل بلدان القارة.

وفي 2002 وهو العام الذي فاز فيه لولا دا سيلفا بالرئاسة لأول مرة في البرازيل كان هناك زلزال سياسي ضخم يهز أركان الشرق الأوسط بفوز حزب العدالة والتنمية التركي حديث التأسيس وصاحب التوجه المحافظ بالانتخابات التشريعية وتشكيله الحكومة بمفرده، وهذا الحزب وقادته يقدمون تجربة ناجحة في الحكم والإنجاز الحقيقي طوال عقدين من الزمان.

تجربة حزب العدالة دعمت الديمقراطية وحققت العيش الكريم ولهذا خرج الشعب التركي يواجه انقلاباً عسكرياً ويُفشله في 2016 وربما هذه المواجهة الشعبية الجسورة وضعت نهاية للانقلابات التي اعتاد عليها هذا البلد وكانت سبباً في تأخره وشيوع الفساد والتخلف فيه.

الإصلاح العربي البعيد

عربياً، لا انتخابات حقيقية، فهى إما تفوز بها أحزاب مدعومة من سلطة الحكم ومرغوب فيها وحدها ولهذا يتم قطع الطريق على أحزاب وقوى أخرى غير مرغوب فيها، أو هى انتخابات شكلية مزيفة أو انتخابات طائفية تقوم على المحاصصات وتقسيم الدوائر والمقاعد للطوائف والمذاهب، وبسبب عدم الإيمان بالديمقراطية وغياب الانتخابات الجادة والإصرار على الوصول للحكم بطرق غير ديمقراطية فإن ليبيا واليمن وسوريا تغرق في فوضى واحتراب وشلل سياسي والعراق ولبنان على نفس المسار.

وتجربة تونس التي كانت تمنح أملاً في إمكانية الإصلاح العربي انتكست والبلد يواجه أزمات عنيفة بعد هيمنة الرئيس على السلطة وانقلابه على الدستور وصياغته دستور جديد أيده ربع الناخبين فقط.

نماذج للديمقراطية

إسرائيل تشهد خامس انتخابات عامة خلال 4 سنوات فقط، ليكون الاحتكام للشعب فيمن يشكل الحكومة، وكينيا وأنغولا في أفريقيا -قارة الديكتاتوريات والانقلابات العسكرية- شهدتا انتخابات تم التشكيك في نتائجها، لكن تقاربها الشديد بين المترشحين للرئاسة، وبين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة تدلل على مؤشرات تصويت حر.

لن نتحدث عن فرنسا وإيطاليا والسويد وأستراليا وانتخاباتها الحرة هذا العام، فهى بلدان تنتمي للعالم الحر، وكوريا الجنوبية تقدم نموذجاً آسيوياً مقبولاً في تداول السلطة والنجاح الاقتصادي يجعلها تقترب من الغرب.

بينما العالم يُغرد بصوت الديمقراطية العذب في مناطق متعددة، فإن العرب يواصلون الضرب بعنف على طبلة الاستبداد بصوتها الصارخ الذي يصم الآذان في فضاء من الظلام الدامس.

المصدر : الجزيرة مباشر