قطر تكسب معركة العقول والقلوب

قطر لم تبدأ من الصفر مع الشروع في بناء منشآت المونديال، البلد كان قد بدأ مع الألفية الجديدة مشروع هائل وضخم من التنمية، وقطع شوطاً كبيراً فيه.

خلال وقت قصير، سقطت الصورة المشوهة التي جرى رسمها لقطر لدى المصريين، وبعض الشعوب الأخرى، على مدار سنوات.
صورة مُفتعلة، تم إنفاق الكثير على تجهيزها ونشرها لتحويل هذا البلد إلى مرمى للتصويب باتجاهه، وحبل لتعليق المشاكل عليه، وساحة لرمي كل الشرور فيه.

ومع استضافة قطر للمونديال، ومع إبهار هذا الحدث العالمي الأوسع شعبية في العالم، ومع الصورة البراقة لهذا البلد العربي على الشاشات في كل مكان، ومع الاستمتاع باللعب والتنافس الشريف، ومع منظومة القيم الأخلاقية، ومع الحفاظ على العادات الأصيلة، ومع رفض التفريط في العقائد والثوابت، ومع عدم الانجرار إلى الانفتاح دون ضوابط، ومع صيانة قواعد الثقافة العربية الإسلامية، ومع التفاخر بالموروث، والتعامل مع الحداثة بانضباط، ومع عدم الانسحاق والاستصغار أمام ثقافات وأفكار وعادات وقيم أخرى تتصادم مع ما نؤمن به، ونعتقده، ونسير عليه في بلادنا ومنطقتنا، فإن قطر أزالت كل ما تم لصقه بها من تشويه وتلفيق وتضليل وتجهيل طوال سنوات مضت.
لهذا تكسب قطر بتأن وهدوء معركة العقول والقلوب، في العالم العربي والإسلامي، ولدى مناطق أوسع في العالم، وهذا نجاح له مذاق خاص لأنه نتاج جهود دؤوبة وصبر طويل.

نعم.. نستطيع

فوائد استضافة كأس العالم لن تكون مالية ومادية فقط، رغم أنها جيدة، فالبلد تم استكمال تحديثه وتطويره بمناسبة استضافة الحدث الرياضي الكبير، ذلك أن قطر لم تبدأ من الصفر مع الشروع في بناء منشآت المونديال، البلد كان قد بدأ مع الألفية الجديدة مشروعا هائلًا وضخمًا من التنمية، وقطع شوطًا كبيرًا فيه.

لكن ضمن أهم فوائد المونديال أن قطر البلد الصغير مساحة وسكانًا، قال يوم فاز بالاستضافة قبل 12 عامًا العبارة الشهيرة “نحن نستطيع”. ويوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، ومع حفل افتتاح البطولة التي تُقام للمرة الأولى في بلد عربي ومسلم وشرق أوسطي، برهنت للعالم بشكل عملي باهر أنها تستطيع، وأنها استطاعت بالفعل.

ومع توالي أيام المونديال والمباريات والمهرجانات والاحتفالات وكل الأنشطة المصاحبة والمرتبطة ببهجة كرة القدم، وعالمها شديد الرحابة، وجمهورها هائل الاتساع، فإن الدوحة لم تعد بحاجة إلى تقديم الدليل على أنها استطاعت، ودرس قطر للعالم هنا أنه بمقدور أي بلد أن يستطيع، وأن يصعد أعلى قمة، وأن يصل إلى سابع أرض، أي يفعل المستحيل، فلا مستحيل أمام الإرادة.
ومتى توافرت الإرادة وشروطها في الإخلاص والعزيمة والثبات والقدرة والبذل والعطاء والرجال، فإن المستحيل يكون ممكنًا.

انكشاف الصورة المزيفة

الإنجاز المونديالي التاريخي والإبهار الرائع كشفا زيف الصورة التي جرى الترويج لها طوال سنوات بأن قطر بلد مشاكل وغير مريح لبعض الجيران والأشقاء، ولم يكن ذلك صحيحًا، وكانت تلك ألاعيب السياسة وأفاعيل الخلافات والخصومات والصراعات التي طُويت صفحتها، ولهذا نقول دومًا إن خلافات الأنظمة -بغض النظر عن البادئ بها والمتسبب فيها والمسؤول عنها- يجب أن تتسم بالمسؤولية والعقلانية والحفاظ على مساحة من النقاش والحوار والمصالح وجعل خطوط التواصل مفتوحة، ولا ينبغي جرف الشعوب معها لمنع تفشي الكراهية والأحقاد والعداوات بينها.

هذه قطر التي كان يُقال عنها وضدها الكثير، رآها المصري والعربي والمسلم والإنسان في كل بقاع الأرض مع المونديال أفضل ما يكون، بلد متحضر متفوق متطور مهذب يعامل ضيوفه وزواره والمقيمين عنده معاملة إنسانية وأخوية راقية، بلد سلام ووئام وداعية استقرار وانفتاح على الجميع، بلد ناهض يستفيد من ثرواته الطبيعية في تنمية نفسه وتوفير الرفاهية لشعبة وإمتاع العالم بالأحداث الكبرى التي يستضيفها على أرضه مثل البطولة الكروية العالمية، بلد متمسك بعقيدته وثقافته الدينية دون غلو أو تفريط.

التسامح وتقدير الإنسان

أيضًا، قطر بلد تسامح بلا قهر أو قمع أو تضييق أو قيود على الناس، وبلا سجون ومعتقلات من تلك المعروفة عربيًّا وفي عالم الجنوب غير الحر، لا نقول إن قطر عالم أول في الحريات والديمقراطية، لكنها عالم أول في تقدير الإنسان وصيانة حقوقه، هي “كعبة المضيوم” كما قال يومًا المؤسس الثاني لهذا البلد والبنّاء الأول له، الأمير السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، الذي كان يجلس على يمين الشيخ تميم، الأمير الحالي، في افتتاح المونديال، وهو مكان لائق به ومستحق له، ولا أحد غيره كان جديرًا بهذا المقعد وتلك المكانة غير سموّه، فهو الذي أطلق ورشة نهوض قطر وتحديثها، ونقلها من دولة عادية لا ذكر لها خليجيًّا وعربيًّا ودوليًّا إلى دولة تمثل رقمًا عالميًّا في الطاقة والسياسة والمصالحات والوساطات والدبلوماسية الوقائية.

إعجاب بـ قطر

لست موكلًا للدفاع عن قطر، أهلها أولى بذلك، أنا أنقل ما عايشته من تقدير وإعجاب من مصريين تجاه قطر بسبب ما يشاهدونه في أيام المونديال، وكذلك آخرون كانوا متأثرين بالخطاب الإعلامي والسياسي السلبي فصارت مواقفهم إيجابية عنها، ذلك أنهم وغيرهم شعروا جميعًا بالفخر لأن بلدًا عربيًا شقيقًا وراء هذا الإعجاز المونديالي، كما أنهم يشاهدون ملاعب ومنشآت ومدنًا ومظاهر تنمية وحياة تتفوق على مثيلاتها في بلدان العالم الأول صانع الحضارة الحديثة.

لا شك أن المصالحة بين قطر وبلدان خليجية ومصر، وإسكات صراخ الإعلام الموجَّه، أسهم في تهدئة الأجواء، وتحجيم الصراخ والتشنجات، وجاءت الزيارات المتبادَلة بين القادة والمسؤولين في قطر وهذه البلدان، لتدعم مسار تعزيز العلاقات، وهذا كله طيّب، إنما المغزى الأهم لكأس العالم أنه كشف لمن لم يكن ودودًا مع قطر، أو لم يكن يعرف من هي قطر، أن هذا البلد يقول لكل عربي ومسلم: ارفع رأسك، نحن قادرون على أن نكون في صدارة العالم بالتخطيط السليم، والعمل الجاد، وعزم الرجال المخلصين، وقوة الإرادة، والتمسك بمنظومة القيم والأخلاق.

المصدر : الجزيرة مباشر