عمال الصين يحتجون.. أين الرخاء الشيوعي المرتجى؟!

مظاهرات شنغهاي

ينظر كثيرون إلى الصينيين بغبطة وحسد أحيانا على التطور الذي شهدته بلادهم خلال العقود الأخيرة. يتصور هؤلاء أن تلك الدولة الشيوعية تحولت إلى جنة العمال والفلاحين التي تحلم بها البروليتاريا، التي تغنّى بها كارل ماركس ولينين، بعد أن أصبحت مصنع العالم، وثاني أقوى اقتصاد بالكون.

من عاش بالصين يعلم أن الجنة التي وعد بها الشيوعيون لن تتحقق. فالعامل الصيني من أكثر عمال الدنيا تعبا وكدا، وهو يعمل في ظل نظام رأسمالي شديد القسوة، تديره حكومة استبدادية، لا علاقة لها بالاشتراكية أو الشيوعية إلا بشعارات تستهدف السيطرة على أدوات السلطة والمال والبشر.

عبودية “الهوكو”

تصل ساعات العمل اليومية للعامل الصيني 12 ساعة، في الأشغال المثالية، وتزيد بأغلب المواقع، خارج المدن وداخلها. تطبق الحكومة نظام “هوكو” الذي يحجب فرص العمل الجيدة عن الطبقة الفقيرة والمتوسطة، ويحرم الصيني من الانتقال من مكان عمل إلى آخر، بدون موافقة من قيادات الحزب الشيوعي والجهات الأمنية. يدفع النظام الصينيين إلى الهرب من قراهم للعمل بالمدن أو الانتقال عبر قوافل التهريب إلى مناطق بعيدة عن بيوتهم، يقيمون دخل معسكرات العمل أو غرف مشتركة، يحيون حياة مقززة أقرب إلى العبودية.

يتعرض كثيرون للعمل بالسخرة، لدى عصابات تتولّى تهريبهم ومساعدتهم على العمل تحت وصايتها. تظهر كوراث عمالة السخرة عند الأزمات الكبرى التي تقع من حين إلى آخر، على شكل احتجاجات عمالية في أماكن مهمة وترصدها أجهزة الإعلام.

مظاهرات الغضب

نقلت وسائل الإعلام، خلال الأيام الماضية احتجاجات الغضب التي تفجرت بين العاملين في عدد من مناطق الصين، وأبرزها ما وقع بأكبر مصنع في العالم لإنتاج هواتف آيفون، وأدى إلى اشتباكات عمال المصنع مع قوات مكافحة الشغب، وتكسير معدات شركة “فوكسكون” المنتج المحلي لهواتف ” آبل”. بدأت الأزمة بإعلان الحكومة الحجر الصحي بمدينة تشنغتشو. ضجت شركة آيفون الأمريكية، من إجراءات العزل التي تطبقها السلطات بقسوة وعنف، وتحول دون حركة البشر والتوريد للمصانع، وهددت بالانسحاب من الصين وتوسيع أعمالها بالهند.

تنتج المصانع نحو 40% من مكونات أبل وتعد المورد الرئيسي لهواتف آيفون 14 بأسواق العالم. تعرضت أبل لتراجع الأرباح، في وقت يعاني 22 قطاعا من بين 41 قطاعا اقتصاديا بالدولة خسائر باهظة نتيجة سياسة “الإغلاق الإجباري” التي تفرضها السلطات بقسوة في الأماكن التي يتشبه في وجود كوفيد -19 بها.

شرع الأمريكيون في التفاوض مع الهند لنقل معدات التجميع والتصنيع إليها، بالتوازي مع إنشاء مصانع أخرى في فيتنام، فخشى رئيس المقاطعة أن تفشل أبل في توفير طلبات عملائها، خلال احتفالات أعياد الميلاد، كما حدث في موسم تخفيضات شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري. تدخل المسؤول بالحزب الشيوعي بالتفاوض مع عمال “فكسكون” لإقناعهم بالاستمرار في العمل والنوم داخل المصنع، خشية أن تمتد الخسائر التي يشهدها اقتصاد الدولة من كثرة الإغلاق، إلى أكبر منطقة للصناعات الإلكترونية بالدولة.

مكافآت وهمية

أمام زمجرة العمال، وعدهم المسؤول برفع حوافز الإنتاج بنحو 400 يوان، ومكافآت بانتهاء الموسم، وتوفير الطعام للجميع. اكتشف 200 ألف عامل، بعد أيام من العمل الشاق ونومهم بجوار معداتهم، في بيئة شديدة القسوة، وعدم حصولهم على الطعام، أن وعود المسؤولين مجرد أكاذيب. استغل العمال إصابة بعضهم بكوفيد -19، فطلبوا مغادرة المصنع، فجلبت الإدارة الشرطة لمنعهم من المغادرة، ففر أكثرهم عبر الأسوار.

نشطت مافيا العمال، القريبة الصلة بمسؤولي الحزب، لجلب 100 ألف عامل ليخلفوا الرافضين للعمل، واستغلت الإدارة ذلك فلم توافق على صرف مستحقات الذين تقدموا باستقالتهم احتجاجا على سوء أوضاعهم، وتعريضهم للموت في بيئة غير صحية وغير إنسانية. عندما أتى العمال الجدد فوجئوا بسوء حالة أماكن العمل وزيف الوعود التي قدمها لهم سماسرة الأعمال، وبأن الأجر يصرف بعد 30 يوما متصلة من العمل، وقدره 3000 يوان -الحد الأدنى للعامل يصل إلى 3800 يوان شهريا- وسيتم صرف الدفعة الأولى منه في مارس/ آذار المقبل، بعد انقضاء “عيد القمر” الذي سيبدأ من نهاية يناير إلى منتصف فبراير.

“عيد القمر”

يعتبر عيد القمر المناسبة العائلية الأقدس لدى الأسر الصينية، ويشهد هجرة جماعية للعمال من المدن الصناعية الكبرى إلى مواطنهم الأصلية. ويبلغ عدد العائدين إلى مسقط رأسهم، نحو 400 مليون شخص في رحلات الذهاب ومثلهم في العودة.  اكتشف العمال الجدد الفخّ الذي أوقعتهم فيه مافيا التشغيل وقادة الإقليم، فانضموا إلى العمال القدامى المطالبين بحقوقهم المسلوبة، وحطموا معدات بالمصنع وعربات الشرطة في صدام دموي بث على الهواء مباشرة، في مواقع التواصل الاجتماعي وتسرب إلى الخارج.

احتجّ الآلاف في مدينة أورمتشي نهاية الأسبوع الماضي، بعد أن فشلت عربات الإطفاء في الوصول إلى مبنى سكني يحترق، لأن بطارية سيارة الإطفاء معطلة، وبجوارها مئات السيارات لم تتحرك من أمام العقار، منذ أن فرضت السلطات حجرا صحيا على عاصمة إقليم تركستان الشرقية (شينجيانغ) امتد 100 يوم. احترق 10 من المسلمين الإيغور، داخل العقار الضخم، ولم تفك الحكومة الحصار الجزئي إلا بعد مظاهرات وصدامات، استمرت 3 أيام مع عمال كل أملهم قضاء حوائجهم الأساسية في سلام.

انتفاضة جامعة النخبة

انتشرت الأحد 27 نوفمبر/ تشرين الثاني أكبر موجة عصيان مدني في الصين، منذ 1989، احتجاجًا من العمال على منعهم من الخروج من بيوتهم في شنغهاي، للوصول إلى أماكن عملهم، بعد فقدانهم القدرة على توفير الطعام والمال لذويهم. وجاء بعد ذلك الاحتجاج الملفت وسط جامعة النخبة ذات السمعة العالمية (تسنغهوا) في قلب بيجين، من طلاب اعترضوا على العنف الذي تمارسه الشرطة مع المواطنين الباحثين عن عمل، الرافضين لقيود الإغلاق الإجباري، ليعيد مشهدا تاريخيا تظهر فيه بوادر صدام جديد بين الشعب العامل والمثقفين من جانب، وعلى الجانب الآخر يظل الجيش ونخبة الحزب الشيوعي “يدا واحدة”.

المصدر : الجزيرة مباشر