مسؤولية الشعوب ومجد الكفاح ضد الاستبداد

الشعوب التي تخضع لحاكم مستبد يقهرها تتحمل المسؤولية عن الكوارث التي تتعرض لها بسبب خضوعها؛ لذلك فإن أهم مراحل الكفاح ضد الاستبداد وعي الشعوب بمسؤوليتها.

فعندما يدرك الشعب أن وظيفته الحضارية هي أن ينتفض ويقاوم الاستبداد فإنه يبرهن على حقه في الحياة والحرية.

إن كل حاكم مستبد يريد أن يحكم شعبا جاهلا خانعا خاضعا لا يقدر قيمة الحرية، ولا يدرك قدرته على التحدي والمقاومة.

وفي ذلك يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه ” طبائع الاستبداد “: إن المستبد يود أن تكون رعيته كالغنم درا وطاعة.. لكن الرعية يجب أن تعرف مقامها: هل خلقت خادمة لحاكمها، تطيعه عدل أو جار، وخلق هو ليحكمها كيف شاء بعدل أو اعتساف، أم هي جاءت به ليخدمها لا ليستخدمها؛ والرعية العاقلة تقيد وحش الاستبداد بزمام تستميت دون بقائه في يدها لتأمن من بطشه؛ فإن شمخ هزت به الزمام، وإن صال ربطته!

يتضح في ذلك النص الكثير من المعاني الجميلة التي عبر عنها الكواكبي بألفاظ اختارها بعناية ليصور بها مسؤولية الشعب عن حماية حقه في الحرية والحياة وتقييد الاستبداد؛ فالحاكم المستبد يعجز دائما عن حكم شعب من الصقور يدرك أهمية الحرية.. لذلك فإن الشعب يتحمل المسؤولية عن ربط المستبد إن صال وشمخ، بمعني أن يستخدم القوة الغاشمة ليخضع الشعب ويقهره.

مفهوم “توبة الأنفة”

يضيف الكواكبي: الاستبداد أعظم بلاء يتعجل الله به الانتقام من عباده الخاملين، ولا يرفعه الله عنهم حتي يتوبوا ” توبة الأنفة “!

هذا المعني لم يسبق كاتب الكواكبي في التعبير عنه بهذا المفهوم الجديد: “توبة الأنفة”.. ومن يتأمل معي في هذا المفهوم يمكن أن يكتشف الأسس التي يمكن أن تقوم عليها نهضة الأمة، من أهمها:

1- إننا يجب أن نعتز ونفخر بأننا عباد لله وحده، ولا يمكن أن نكون عبيدا لسواه.

2- إن الله خلقنا لنعيش على أرضه بعزة وكرامة.

3- إننا يجب أن ندافع عن حريتنا وحقوقنا.

4- إننا يجب أن نرفض الخضوع لمستبد مهما كانت قوته، ونتطلع دائما لمجد المقاومة، ونرفض عار الذل والهوان والوهن.

5-إننا يجب أن نتوب إلي الله من الخوف من المستبد الذي يتصور أنه امتلك القوة ليستعبد الناس، والله خلقهم أحرارا.

6- إن الشعب كله يجب أن يرفض أن يتعرض أحد للظلم، وأن ينتصر للمظلوم، ويدافع عنه، ويتحدى الظالم ويقاومه، ويعمل لتحقيق العدل، وحماية حرية الجميع وحقوقهم؛ فإن سكت الشعب عن حق إنسان، وارتضي ما يتعرض له من ظلم، ولم يدافع عنه؛ فإنه يستحق ما يتعرض له من بلاء وفقر وذل.

7- عندما يتوب الشعب لله “توبة الأنفة” –طبقا لمفهوم الكواكبي الجميل – فيعلن رفضه للخضوع والخنوع والذل، فإنه يستحق مجد النصر على الاستبداد والاستعمار والاستغلال والفساد.

أعظم إنجاز يحققه الشعب

إن الشعب يستطيع أن يلجم المستبد، ويلزمه باحترام الحريات والحقوق عندما يمتلك إرادته، ويعبر عنها في انتخابات حرة نزيهة؛ وفرض الشعب لإرادته هو أعظم إنجاز يمكن أن يحققه؛ لأنه بإرادته يمكن أن يبني المستقبل، ويفكر ويبدع ويبتكر وينتج ويتعلم ويعلم وينشر المعرفة.

لذلك فإن مفهوم “توبة الأنفة” الذي ابتكره الكواكبي يمكن أن يساهم في بناء المستقبل، عندما يقرر الشعب أن يتوب لله من الخضوع للمستبد، وأنه لا يمكن أن يخاف إلا من الله وحده، وأنه يعتز بالحرية التي وهبها الله له، ويعرف ويعي أن الله خلقه ليعيش عزيزا كريما حرا أبيا، وأنه يأنف أن يحني رأسه إلا عبادة لله، وأن الله خلق له ثروات الأرض ليعيش سعيدا فليس من حقه حاكم أن يقهره أو يظلمه، أو يفقره، أو يتحكم في ارادته؛ والله يرضي عن الشعب الذي يأبي الضيم، ويأنف من الذل.

الأنفة: توبة الأحرار لله

مفهوم ” توبة الأنفة ” الذي ابتكره الكواكبي يفرض على الشعب أن يكافح ليختار حاكما يكون خادما للشعب، يتخذ القرارات التي تحقق آماله وحلمه، وأن يستشير ممثلي الشعب الحقيقيين.

إن الشعب الذي خضع للاستبداد، وارتضي الظلم، ونافق الحاكم الفرد، وخاف من القوة الغاشمة يجب أن ينتفض، ويدافع عن حريته وحقوقه؛ ليعيش عزيزا كريما كما خلقه الله، وتلك هي توبة الأحرار لله الذي يرفضون العبودية لسواه، ويرفضون الظلم ويعملون لتحقيق العدالة عبادة لله.

يصف الكواكبي الاستبداد بأنه أعظم بلاء، فهو وباء دائم بالفتن، وجدب مستمر بتعطيل الأعمال، وحريق متواصل بالسلب والغصب، وسيل جارف للعمران، وخوف يقطع القلوب، وظلام يعمي الأبصار، وألم لا يفتر، وصائل لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي.

لذلك فإن مقاومة الاستبداد يجب أن تكون بنشر العلم، وتوعية الشعب بحقوقه، ومن أهمها الحرية والكرامة والعدالة.

والشعب الذي يريد الحرية والكرامة يجب أن يدافع عن حقه في اختيار قيادات أصيلة تقدم للشعب رؤية تقوم على العلم والمعرفة.. ومسؤولية الشعوب في مقاومة الاستبداد مجد، ولم يحقق شعب مجدا بدون تضحيات، وبدون علم ومعرفة ووعي وثبات على المبادئ.

يقول الكواكبي: إن المستبد يخاف من أن يعرف الناس أن الحرية أفضل من الحياة.

لكن الشعوب تحتاج إلي الوعي بمسؤوليتها لتنتفض، وتحصل على مجد مقاومة الاستبداد، والانتصار في معركة الحرية، وهي بالتأكيد قادمة!

 

المصدر : الجزيرة مباشر