عملية تركيا العسكرية في سوريا.. وعلاقتها بالمصالحة مع الأسد

أردوغان والرئيس بوش

 

كما سبق وتوقعنا في المقال السابق، بدأت تركيا عملية عسكرية موسعة في شمال سوريا باستخدام قواتها الجوية، مستهدفة أماكن تجمع قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، ومخازن ذخيرتها ومخابئها في كل من كوباني، وعين العرب، وعين عيسى، وتل رفعت، والمالكية، في أكبر عملية عسكرية لها منذ فترة، على حد وصف وزير الدفاع التركي خلوصي أكار.

وهي العملية المشمولة بتهديدات جدية باجتياح بري لهذه المناطق بهدف تطهيرها تمامًا من العناصر المسلحة التي تراها أنقرة مهددة لأمنها القومي، والمتمثلة في عناصر حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب المدعومتين من الولايات المتحدة الأمريكية، والسويد، والأحزاب اليسارية في الدول الأوربية.

تدرك تركيا أن في حربها ضد الإرهاب عليها أن تتخذ قرارات صعبة، وأن تسلك طرقًا غير متوقعة من أجل تأمين حدودها، والحفاظ على سلامة أراضيها ووحدتها، وضمان تحقيق الأمن والاستقرار لمناطقها المتاخمة للأراضي السورية على وجه التحديد، وذلك بهدف رئيسي واحد، ألا وهو منع قيام كيان سياسي كردي على حدودها مع سوريا مثلما سبق وأن حدث في شمال العراق من قبل.

التصدي لمنع تكرار السيناريو الأمريكي في سوريا

لم ينس الأتراك أن الولايات المتحدة الأمريكية تلاعبت بهم خلال حربها على العراق ونظام صدام حسين، فبعد أن استخدمت أراضيها، وقواعدها العسكرية لضرب الأراضي العراقية، قامت بدخول العراق من الجهة الحدودية المتاخمة للأراضي التركية في شمال العراق، حيث تمركزت القوات الأمريكية فترة من الوقت، وحينما غادرت المنطقة باتجاه بغداد، تخلت عن كامل سلاحها لقوات البشمرجة الكردية التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يترأسه مسعود البارزاني، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة جلال طالباني، ليسيطر الحزبان عقب اتفاقهما على مدن دهوك والسليمانية، ومحافظة كركوك الغنية بالنفط، والمناطق الكردية بمحافظة ديالى، إلى جانب ضم مدن سنجار وشيخان ومخمور بمحافظة الموصل، ويعلنان شمال العراق منطقة حكم ذاتي، تتبع الحكومة المركزية في بغداد في الشؤون الخارجية والمالية والدفاع فقط.

ومن أجل منع تكرار هذا السيناريو، الذي تحاول واشنطن إعادته بكل تفاصيله، ولتحقيق الأهداف التي تطمح أنقرة في تنفيذها على أرض الواقع، تصاعدت في الآونة الأخيرة نبرة الحديث عن ضرورة العودة إلى التفاوض مع النظام الحاكم في دمشق، ولم تستبعد الكثير من التصريحات إمكانية عقد لقاء مباشر بين الرئيس أردوغان ونظيره السوري بشار الأسد قبل انتهاء العام الجاري، فالرئيس أردوغان شخصيًا أعلن أكثر من مرة، خلال الأيام الماضية أنه “لا خلاف دائم في السياسة” معربًا عن عدم معارضته للقاء الرئيس السوري.

ليأتي عقب ذلك تصريح شريكه في السلطة دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية، الذي شدد فيه على أهمية أن يكون هناك حوار مباشر مع الأسد، بهدف ما وصفه بـ”تشكيل إرادة مشتركة ضد التنظيمات الإرهابية”. أصبحت تركيا تدرك أن مصالحها مع الرئيس السوري، وما يمكن أن تحققه من أهداف ونتائج تصب في صالحها سياسيًا وعسكريًا وأمنيًا يتخطى بكثير أسباب الخلاف القائم بين البلدين منذ أكثر من عقد.

مكاسب أنقرة من وراء المصالحة مع الأسد

فعلى الصعيد الأمني تعلم تركيا جيدًا أن النظام السوري لن يقبل بأي حال من الأحوال اقتطاع جزء من أراضيه لصالح إقامة كيان كردي مستقل عن جغرافية الدولة السورية وسيادتها، وبالتالي فإن التعاون معه في هذه المسألة، مع عودة العمليات الانتحارية والتفجيرات التي تستهدف المدنيين في الداخل التركي، أصبح أمرًا ضروريًا، بل وملحًا قبل أن يستفحل الوضع، وتزداد الأمور سوءًا مع التحضير للانتخابات الرئاسية والبرلمانية منتصف العام المقبل، حيث يمكن التعويل على النظام السوري في كبح جماح الفصائل الكردية الموجودة على أراضيه بنفسه، وتطهير المناطق الشمالية من عناصرها المسلحة، والتصدي لأية محاولة تستهدف تمزيق الأراضي السورية، دون أن يتكبد الجيش التركي عناء القيام بتلك المهمة التي تثقل كاهل خزينة الدولة، وتتسبب في استشهاد أبنائه، خصوصًا وأن نظام الأسد يتهم قوات “قسد” بالعمالة مرة وبالخيانة مرة أخرى.

وعلى الصعيد الداخلي، سيكون بمقدور أنقرة التخلص من أكبر أزمة تواجهها، وهي مسألة اللاجئين السوريين، التي توظفها المعارضة دومًا في صراعها ضد الحزب الحاكم مع كل استحقاق انتخابي، ويخشى العدالة والتنمية أن تسفر تلك الجهود هذه المرة عن خسارته لشريحة لا يستهان بها في الانتخابات المقبلة، خصوصًا مع عمق الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، والتي غالبًا ما يتم الربط بينها وبين عدد اللاجئين السوريين في وسائل إعلام المعارضة التركية.

وفي هذا الإطار أعلنت أنقرة أنها تدعم العملية السياسية الخاصة في سوريا، وأنها تؤيد بقوة مخرجات مسار آستانة، بل وتعمل بجد من أجل توفير الحماية المؤقتة لملايين السوريين، وتسهم بفاعلية في الجهود المبذولة لتهيئة الظروف المناسبة للعودة الطوعية للاجئين، وإيجاد حل سلمي وفق خريطة الطريق التي يحملها قرار مجلس الأمن رقم 2254.

أما على الصعيد الاقتصادي، فالمصالحة مع نظام دمشق ستؤمن لتركيا حصة في كعكة تعمير المناطق التي دمرتها الحرب، وفتح سوق جديد أمام المنتجات التركية، الأمر الذي من شأنه زيادة حجم الصادرات وتوسيع نطاق التعاون مع دولة هي في نهاية المطاف دولة جارة، تربطها مع تركيا الكثير من الروابط التاريخية والاجتماعية.

 ترتيب الأوراق، ومراجعة التحالفات عجّل بإطروحات المصالحة

وعلى صعيد العلاقات الخارجية، تبدو تركيا في هذه المرحلة، أكثر احتياجًا إلى إعادة ترتيب أوراقها، ومراجعة علاقاتها وتحالفاتها السابقة، خصوصًا مع تضارب تصريحات المسؤولين الأمريكيين تجاه العملية العسكرية لقواتها في شمال سوريا، ردًا على تفجير شارع الاستقلال الذي أودى بحياة 6 أشخاص، وإصابة 81 آخرين.

فمن ناحية أعربت إدارة الرئيس بابدن عن تفهمها لمخاوف تركيا المتعلقة بأمنها القومي، إلا أنها في الوقت نفسه حذرت من تداعيات قيام الأخيرة بعملية عسكرية موسعة في الشمال السوري بحجة أن هذا الأمر من شأنه أن يهدد الاستقرار في المنطقة، ويعيق عملية استهداف عناصر تنظيم داعش، التي يشارك في مواجهتهم معها قوات سوريا الديمقراطية، وبهذه الحجة تدعمهم واشنطن بكافة أنواع الدعم العسكري واللوجستي، وتزودهم بأحدث أنواع الأسلحة القتالية، بل واتهمت القوات التركية بتعريض حياة المدنيين وأفراد القوات الأمريكية للخطر جراء ضرباتها الجوية على المنطقة، نافية أن يكون لها علم بالجهة التي يقف وراء تفجير شارع الاستقلال!!.

الموقف الأمريكي وما حمله من تباعد ظاهر، وخلاف واضح مع تركيا دفع الأخيرة في إطار بحثها عن بدائل إلى موافقة الرغبة الروسية، إذ تسعى موسكو منذ مدة لإحداث تقارب بين أنقرة ودمشق، وهو التقارب الذي تراه موسكو محققًا للأهداف التركية، وفي الوقت نفسه يعمل على إنهاء الحرب في سوريا، وعودة الأمور إلى طبيعتها في المنطقة، ويؤمن الشرعية الدولية للنظام السوري.

أما على صعيد مكاسب النظام السوري في دمشق، فيكفيه أن تنضم تركيا لجبهته الداعمة له، المؤيدة لوجوده، لما لذلك من أهمية في تثبيت نظام حكمه، وشرعيته إقليميًا ودوليًا.

الأمر الذي يعني أن احتمال عقد لقاء بين أردوغان والأسد أصبح أمرًا محسومًا، وأنه من المحتمل أن يكون قريبًا جدًا، وأن هذا اللقاء كما هو واضح سيتم برعاية روسية، حيث أعلن ألكسندر لافرنتيف مبعوث بوتين الخاص إلى سوريا منذ ساعات أنهم سيكونون شهودًا على التقارب السوري – التركي قريبًا، وأن بلاده أصبحت تتلقى إيماءات إيجابية من العاصمتين حول استعدادهما لخطوة التقارب بينهما.

المصدر : الجزيرة مباشر