لهذا وأكثر يحب الناس كرة القدم

من مباراة إسبانيا وكوستاريكا

 

 

(1) هدنة إنسانية

لم يكن أحد يتوقع أن يتقاطع موعد مونديال 2022 مع حرب شبه عالمية، لذا سعدت بتوقيته ووجدته فرصة للتخفيف من مشاعر التوتر وعدم اليقين التي أشاعتها الحرب الأوكرانية، فالأخيرة تسببت في العديد من الأزمات حول العالم بسبب ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، وكذلك ارتفاع معدلات التضخم وتراجع قيمة العملة في كثير من البلدان، فالعالم أصبح قرية صغيرة الخطر فيها يعاني منه الجميع.

مونديال كرة القدم رقم 22، أسهم عن غير قصد في تغيير الواقع المفروض علينا إلى الأفضل ولو إلى حين، فهناك فرق بين التوتر حين تشاهد الصواريخ تقصف مدينة وتشرد وتقتل الأبرياء، وبين التوتر وأنت تتابع مباراة كرة قدم وتتماهى مع اللاعبين على أرض الملعب وتصرخ مناشدًا هذا اللاعب أو ذلك بأن ينتبه إلى اللاعب المنافس الذي يوشك أن يسرق منه الساحرة المستديرة ليرميها في حضن الشباك، في الحالة الأولى ينتابك حزن وأسى وفي الثانية تشتعل إثارة وحماسًا. على مدى ما يقرب من شهر سيتابع نحو 5 مليارات شخص حول العالم مباريات كأس العالم لكرة القدم المقامة في دولة قطر، وستصبح صفارة الحكم أكثر أهمية من تصريحات القادة وسير المعارك على الساحة الأوكرانية.

(2) كرة القدم وحقوق الإنسان

يكثر الحديث عن حقوق الإنسان والمساواة والعدالة، وأعتقد أن كرة القدم من أكثر الألعاب الرياضية تحقيقًا لذلك، فهي لعبة يمكن للجميع ممارستها في أي مكان، غير مكلفة وسهلة التعلم، تعتمد على المهارة الفردية لكن لا يمكن الفوز فيها دون العمل الجماعي الذي يتطلب من اللاعبين التحلي بروح الفريق. لعبة تتساوى فيها الأعراق، الطبقات، الجنسيات، الهويات والعقائد، لا فضل للاعب على آخر سوى مهارته وموهبته، يمكن أن يهزم فريق دولة صغيرة نامية من أفريقيا فريق الولايات المتحدة الأمريكية، ولا تجد الأخيرة غضاضة ولا يحتاج الأمر لتحريك الجيوش أو فرض عقوبات، الهزيمة في المربع الأخضر لا يتبعها أذى. الحكم في كرة القدم هو قاض صاحب نفوذ كبير في الملعب، وعدالته ناجزة، وحين أتابع مباريات كرة القدم أتطلع لو أصبحت حياتنا الواقعية مثل مباراة كرة القدم بلا تمييز ولا فوارق بين الشعوب والدول حيث تتحقق العدالة والمساواة على الجميع دون مماطلة أو تسويف.

(3) محاكاة للحياة

“الكورة أجوان” عبارة اشتهر بها كابتن لطيف المعلق الرياضي المصري الشهير -رحمه الله- وهي حقيقية، فمهما كان الفريق قويًا ومتسيدًا في الملعب لا بد أن يترجم ذلك لأهداف تتحقق في مرمى الفريق المنافس. في كرة القدم كما الحياة، الهدف واضح أمام الجميع، لكن من يصل إليه هو من يتمتع بالمهارة والكفاءة والتخطيط السليم وردود الفعل السريعة وإدراك بواطن الضعف عند خصمه. اللاعب المتميز ليس فقط من يتمتع باللياقة والمهارة ولكن عليه أن يتحلى بسرعة البديهة والقدرة على اقتناص الفرص. في كرة القدم كل لاعب له مهمة فردية ولكن عليه الالتزام بالخطة الجماعية التي وضعها المدرب وعليه أن ينتبه لكليهما ولا تعرقله هذه عن تلك، وعلى كل لاعب أن يعلم أن الملعب ليس ملكه لكنه واحد ضمن فريق مكون من 11 لاعبًا، هذه قواعد اللعبة وعلى الجميع أن يتعلم الالتزام بها لتحقيق الفوز. أحيانًا نجد لاعبًا أنانيًا أو عنيفًا أو فظًا سيئ الخلق، كل هذه الصفات تكون محل تقييم من المدرب والجمهور ويكون لها أثر في قيمة اللاعب، صحيح أن قواعد لعبة كرة القدم أكثر عدلًا وإنصافًا من حياتنا الواقعية، وربما يكون ذلك من أسباب أعجاب الملايين بها، فجميعنا يرجو أن تكون هناك قواعد ومعايير واضحة للفوز والنجاح في الحياة، وأن تكون لدى الجميع فرص متساوية ومتكافئة، تنسينا مباريات كرة القدم مظالم الحياة الحقيقية.

 (4) الانتماء العاطفي

كرة القدم، هي أكثر لعبة رياضية مثيرة للعواطف الجياشة، عشاق كرة القدم لا يكتفون بمتابعة المباريات في الملاعب أو على شاشات التلفزيون، ولكنْ يتماهون مع اللاعبين في الملعب، ويتحول كل منهم إلى معلق رياضي ومدرب وحكم ولاعب في الوقت نفسه. كرة القدم لعبة عاطفية فيها حب وكره وتعصب وانتماء وسعادة وحسرة.

النادي الذي ينتمي إليه الفرد يصبح جزءًا من تكوينه النفسي والعاطفي، يدافع عنه كما لو كان يدافع عن أسرته ووطنه ولا يتقبل هزيمته بسهولة، لذا نشاهد أعمال العنف والشغب في الملاعب حيث يتحول الحماس إلى تعصب مذموم. غالبًا ما تسهم كرة القدم في هروبنا من حياتنا الطبيعية الرتيبة والمملة. خلال وقت المباراة الممتد إلى 90 دقيقة وأحيانًا يكون هناك وقت إضافي، ننسى مشاكلنا كلها، ونركز على لعب فريقنا. الهدف الذي يسجله فريقنا يجلب لنا السعادة والهدف الذي يتم تسجيله في مرمانا يجعلنا نشعر بسوء، فالفريق يصبح نحن. كرة القدم ليست مجرد لعبة تنساها بعد أن تشاهدها لكنها تصبح جزءًا لا يتجزأ من تكوينك النفسي والعاطفي الذي يظل معك طوال مراحل حياتك.

أرجو أن يكون مونديال 2022 فرصة لكل عشاق الكرة ليستمتعوا دون تعصب.. وهنيئًا لقطر ولكل العرب، فهذه هي المرة الأولي التي يقام فيها المونديال على أرض عربية مسلمة يسمع فيها صوت الأذان.

المصدر : الجزيرة مباشر