الرياضة والسياسة وأسطورة ازدواجية المعايير

إن أحد أهم النجاحات التي حققتها قطر في إدارتها لملف تنظيم بطولة كأس العالم أنها لم تقف عند أسطورة “ازدواجية المعايير” والوقوف عندها والبكاء على الأطلال كما تفعل معظم النظم العربية

مشجعون يجلسون على لافتة 2022 بقطر قبل انطلاق بطولة كأس العالم

 

كثيراً ما تثار أسطورة ازدواجية المعايير في الغرب في تعامله مع القضايا السياسية، وخاصة ما يرتبط منها بالدول العربية والإسلامية، وأن الغرب يتعامل مع هذه القضايا بمعايير تتناقض مع تلك التي يستخدمها لو كانت هذه القضايا تخص الدول الغربية وشعوبها.

والحقيقة أن هذه الازدواجية من وجهة نظري الشخصية أسطورة في أذهان الضعفاء والعاجزين والفاشلين في الدفاع عن قضاياهم المصيرية وأمورهم الحياتية، وتبرير لهذا الفشل والعجز بأن السبب هو هذه الازدواجية، حتى وصل الحال إلى القول بذلك لتوصيف الاستهداف الغربي لقطر التي تنظم بطولة كأس العالم لكرة القدم في نسختها الثانية والعشرين في العام 2022، وينطلق حفل افتتاحها اليوم (20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022).

الأساطير ترتبط في كثير من جوانبها بالأوهام والأحلام، وتوهم أن الغرب لديه منظومة قيم حقيقية ننتظر منه تطبيقها على قضايانا واهتماماتنا ويدافع بها عن حقوقنا وحرياتنا، وهذا غير قائم بالأساس ولهذه قلت “أسطورة ازدواجية المعايير”.

الدول الغربية في تاريخها الحديث والمعاصر، ومنذ بداية الموجات الاستعمارية الكبرى، وهي تتحرك وفق ثنائية مترابطة متماسكة هي “ثنائية القيم والمصالح” فهي ترفع خطاب القيم عندما تتوافق هذه القيم مع مصالحها الأساسية وأهدافها الاستراتيجية، وتسقط هذه القيم عندما تتعارض مع هذه المصالح وتلك الأهداف، حتى في ميدان الرياضة، لأن الرياضة ليست ساحة للترفيه وتحقيق المتعة، ولكنها سياسة في سياسة في سياسة وبامتياز، وهو ما تؤكده العديد من الشواهد المعاصرة.

الرياضة والإلهاء عند النظم الاستبدادية

الجانب الأول من تسييس الرياضة، أنها أحد أهم الوسائل التي تعتمد عليها النظم الاستبدادية لإلهاء الشعوب، وتأجيج الصراعات والانقسامات بين الأفراد والجماعات، وكلما زادت كثافة التغطية الإعلامية للمباريات والمسابقات الرياضية، وزاد الاهتمام بأجور اللاعبين وصفقاتهم وتصريحات المدربين والمسؤولين في الأندية والمؤسسات الرياضية، وخاصة تلك التي تستهدف أندية أخرى، فاعلم يقيناً أن هناك توجيهاً سياسياً وأمنياً لإشغال المواطنين وإلهائهم عن القضايا الكبرى وعن فساد واستبداد النظم الحاكمة.

الرياضة والقوة الناعمة عند الفاعلين والمؤثرين

الجانب الثاني، أن الرياضة أصبحت خلال العقود الأربعة الأخيرة من أهم أدوات القوة الناعمة للدول، وخاصة تلك التي تسعى لبناء صورة ذهنية إيجابية لدى الحكومات والشعوب، وأمام الرأي العام العالمي، وأكثر الدول التي تلجأ للرياضة كوسيلة من وسائل القوة الناعمة، تلك الدول التي تواجه تحدياً في امتلاك قوة صلبة (عسكرية) قوية وتعيش في أقاليم مضطربة، فيتم اللجوء للرياضة كوسيلة لتعزيز الشراكات الثنائية والجماعية، مع أفراد مؤثرين، وحركات رياضية وشركات ومؤسسات رياضية، وعبر هذه الشراكات تنشأ شبكة ضخمة من المصالح المتبادلة التي يسعى الجميع لاستمرارها واستقرارها.

الرياضة كقوة ناعمة، تتم عبر العديد من الوسائل والأدوات، من بينها تنظيم المسابقات الرياضية الكبرى، تنظيم المؤتمرات والندوات والفعاليات الرياضية والتغطية الإعلامية المكثفة لها، شراء حصص في ملكية الأندية العالمية التي تتمتع بشهرة واسعة وجماهير مؤيدة في العديد من الدول، دفع ملايين بل مليارات الدولارات في رعاية الأندية والمسابقات الرياضية، إنفاق الملايين على الفرق الوطنية وتعزيز مشاركتها في البطولات الإقليمية والدولية.

كما أن البطولات والمسابقات والفعاليات الرياضية الكبرى أصبحت أهم أدوات ما يسمى بالدبلوماسية الرياضية، التي يتم الاعتماد عليها كوسيلة من وسائل بناء الصورة الذهنية للدول.

الرياضة صناعة وتجارة

الجانب الثالث، أن الرياضة اليوم لم تعد فقط ترفيهاً أو وسيلة للاستمتاع المؤقت، لكنها صناعة عالمية وتجارة دولية تشارك فيها آلاف الهيئات والمؤسسات والشركات والمصانع عبر مختلف دول العالم، وأصبح حجم الاستثمار في القطاعات الرياضية يتجاوز التريليون دولار سنوياً، ولهذا تأسست الاتحادات الرياضية الدولية والإقليمية والوطنية التي تقوم على تنظيم وإدارة هذه العملية، ووضع الضوابط والتشريعات وتقنين الصفقات والمعاهدات والاتفاقيات.

فالرياضة اليوم أحد أهم مظاهر العولمة الدولية، وأحد أهم مظاهر التفاعلات الدولية المعاصرة، سواء كانت هذه التفاعلات تعاونية أو صراعية، لذلك تجد مواسم ثابتة لانتقالات اللاعبين، وتنافس كبير على استقطاب المتميزين والمشهورين، وإنشاء آلاف الكيانات والمؤسسات الوسيطة التي تهتم بأدق التفاصيل الإدارية والتنظيمية والفنية واللوجيستية ذات الصلة بالعملية الرياضية، وأصبح الكثيرون يتعاملون على سبيل المثال مع الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) أنه لا يقل أهمية عن الأمم المتحدة، لكونه يتحكم في مصائر الملايين عبر العالم.

الرياضة وتسوية الصراعات وإدارة الأزمات

الجانب الرابع من جوانب تسييس الرياضة، أن الرياضة أصبحت فعلياً من بين الأدوات المهمة في تسوية الصراعات وإدارة الأزمات السياسية، ليس اليوم فقط ولكن خلال القرن الأخير على أقل تقدير، فعلى سبيل المثال، دورة الألعاب الأولمبية التي تم تنظيمها في برلين 1936، استخدمها نظام هتلر في بناء صورة ذهنية وترسيخ أيديولوجيته السياسية بين المشاركين، والترويج لأفكاره ومعتقداته وطموحاته.

وفي بداية السبعينيات من القرن العشرين، كانت الرياضة حاضرة لتسوية الأزمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية، عبر تنظيم مباراة ودية في لعبة تنس الطاولة، لحلحلة الصراع بين الدولتين، وكانت هذه المباراة مقدمة للاتصال السياسي والدبلوماسي، أعقبها زيارة الرئيس الأمريكي نيكسون للصين عام 1972، والاعتراف بالصين رسمياً ومنحها المقعد الدائم في مجلس الأمن بدلاً من تايوان.

وفي عام 1980، قاطعت الدول الغربية دورة الألعاب الأولمبية في موسكو، احتجاجاً على الغزو السوفيتي لأفغانستان، وهو ما تكرر عندما قاطعت بعض الدول الغربية دورة الألعاب الأولمبية الشتوية التي نظمتها الصين الشعبية في فبراير 2021، بدعوى مناهضة الانتهاكات التي تمارسها الصين ضد مسلمي الإيغور في تركستان الشرقية.

يرتبط بذلك أيضاً مقاطعة بعض الفرق والاتحادات الرياضية وعدد من اللاعبين العرب والمسلمين للمسابقات والمنافسات التي يشارك فيها الكيان الإسرائيلي، رفضاً للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، والانتهاكات المستمرة التي تمارسها قوات الاحتلال ضد المواطنين الفلسطينين.

كما برز هذا بقوة في الإجراءات والعقوبات التي فرضتها الدول الغربية على روسيا الاتحادية وفرقها وأندية وشركاتها ولاعبيها بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير 2022، فمثلاً أعلن نادي شالكه الألماني، إزالة شعار شركة “غازبروم” الروسية من قمصان فريقه، اعتراضاً على غزو القوات الروسية أوكرانيا، كما انضم نادي برشلونة الإسباني إلى موجة مقاطعة روسيا، حيث أعلن عبر موقعه الرسمي قرار عدم سفر فريقه لكرة السلة إلى روسيا، لخوض مباراتين ضد نادي زينيت سانت بطرسبرغ، وتم حرمان نادي إيفرتون الإنجليزي من الراعي الخاص به الروسي أليشر عثمانوف، وأُجبر رجل الأعمال الروسي رومان أبراموفيتش على التخلي عن حصته في ملكية نادي تشيلسي الإنجليزي، واتخذت كل الاتحادات الرياضية إجراءات عقابية ضد روسيا وتم حرمان منتخبها الوطني من خوض ملحق تصفيات كأس العالم ومن احتضان نهائي دوري أبطال أوربا، وأعلن منظمو بطولة العالم لسباقات سيارات “فورمولا 1″، إلغاء سباق جائزة روسيا الكبرى في العام الحالي.

وأصبح رفع قمصان اللاعبين وعليها شعارات داعمة لأوكرانيا مباحاً بل مفروضاً تعبيراً عن التضامن مع أوكرانيا في أزمتها تجاه روسيا، وكذلك أعلنت اللجنة البارالمبية الدولية قراراً بضرورة منع لاعبي روسيا وبيلاروسيا من المشاركة في الألعاب الشتوية في بيجين، واتخذت رابطة الدوري الإنجليزي قراراً بتعليق عقد البث التلفزيوني لمبارياته مع الشريك الروسي “رامبلر”، دعماً لأوكرانيا.

الرياضة وحركات التغيير السياسي

الجانب الخامس من جوانب تسييس الرياضة هو تنامي الدور الذي تمارسه جماعات وحركات المشجعين، المعروفة باسم “الألتراس” في الحياة السياسية في العديد من دول العالم، وأصبحت العديد من النظم السياسية تنظر إليهم كجماعات ضغط فاعلة ومؤثرة من شأنها تهديد استقرارها وأمنها، وخاصة مع تحول بعض الأندية إلى دولة داخل الدولة، وتحول بعض اللاعبيين وبعض رؤساء الأندية إلى رموز سياسية، تشارك بفاعلية في النشاط السياسي، بل ووصل بعضهم إلى سدة الحكم في عدد من الدول، مدفوعاً بدعم وتأييد جماعات الألتراس.

قطر بين الأساطير والحقائق

في إطار كل الاعتبارات السابقة، يمكن القول إن أحد أهم النجاحات التي حققتها قطر في إدارتها لملف تنظيم بطولة كأس العالم أنها لم تقف عند أسطورة “ازدواجية المعايير” والوقوف عندها والبكاء على الأطلال كما تفعل معظم النظم العربية، ولكنها تعاملت مع الاستهداف الغربي لها باحترافية وفاعلية، فعندما تحرك الغرب للضغط إعلامياً حشدت آلاتها الإعلامية ليس للرد على الشائعات والاتهامات ولكن لكشف زيف منظومة المعايير الغربية.

وعندما تحرك الغرب سياسياً وتعددت البيانات والتقارير التي توجه اتهامات لقطر، قادت قطر حملة دبلوماسية على أعلى المستويات، للتأكيد على ثوابتها وقيمها، وضرورة احترام عاداتها وتقاليدها، وأن البطولة تنظم على أراضيها، وكما تطلب كل دول العالم احترام خصوصياتها في الفعاليات التي يتم تنظيمها على أراضيها، فإن قطر ليست أقل من هذه الدول في الدفاع عن خصوصياتها.

وعندما تحرك الغرب مصلحياً، واستخدم بطولة كأس العالم لابتزاز قطر سياسياً وتحديداً في ملف الغاز، تحركت قطر في تعبئة وتجييش العلاقات والشبكات التي استثمرت فيها خلال السنوات العشر الأخيرة داخل الدول الغربية.

وكانت المحصلة النهائية، هي نجاح الإدارة القطرية للأزمة، سياسياً وإعلامياً ومصلحياً، لأنها وقفت وبفاعلية على ما يجب أن تكون عليها إدارة هذه المواجهات الكبرى، وعدم الوقوف عند الأوهام والأساطير التي يُروج لها العاجزون والفاشلون، ومنها وهم “الازدواجية”.

المصدر : الجزيرة مباشر