أردوغان يقدم رؤية جديدة لإنقاذ العالم.. كيف؟!

العالم يمر بمرحلة تحمل الكثير من التحديات والأزمات، وتفرض عليه أن يبحث عن أفكار جديدة ومبدعة لإنقاذ العالم.

وإنتاج الأفكار الجديدة يبدأ بقراءة متعمقة للواقع العالمي، ومعرفة العوامل التي شكلت الأزمات؛ لذلك يقول أردوغان: لا يمكن لأحد أن يدعي أن العالم الذي نعيش فيه عالم عادل ومستدام، ولا يمكن أيضاً أن يستمر هذا القدر من الظلم إلى الأبد.

هذه العبارة يمكن أن تفتح آفاقاً جديدة للبحث الجاد عن حلول، فالظلم هو أهم العوامل التي ستؤدي إلى انهيار هذا العالم، وهلاك البشرية.

لذلك فإن البحث عن وسائل لإرساء العدالة العالمية طبقاً لتعبير أردوغان هو أساس الانطلاق لبناء المستقبل.

ويحاول أردوغان في كتابه ” نحو عالم أكثر عدلا ” تشخيص الأزمة التي يواجهها العالم، ويوضح أن أهم أسبابها استمرار المفهوم الاستعماري حتى الآن، فهذا المفهوم لم ينتج العدالة ولم يجلب الاستقرار، ولم يجد حلاً للنزاعات في أي وقت من الأوقات.

وهذا المفهوم هو الذي شكل الظلم الناجم عن النظام القائم، فمنذ الحرب العالمية الأولى شكلت الحدود المرسومة بالمسطرة في جميع أنحاء العالم، وفي مقدمتها الشرق الأوسط، والمعدة من أجل المصالح الإمبريالية أساس النزاعات الإقليمية والشعور بالظلم.

يوضح ذلك أن أردوغان تمكن من دراسة مشاكل العالم بوعي تاريخي، حيث كانت الأزمة المعاصرة نتيجة حتمية لظلم تاريخي تعرضت له الشعوب حينما استبدت القوى الاستعمارية بتقرير مصيرها، ورسم حدود الدول دون مراعاة العدالة والثقافة والهوية والتاريخ.

الغيمة السوداء: اتفاقية سايكس بيكو

وفي ذلك يقول رجب طيب أردوغان: لقد كانت اتفاقية سايكس بيكو التي عقدت باتفاق سري تهدف لإقامة نظام يتجاهل أفكار شعوب المنطقة ودولها، والنواحي الاجتماعية للمنطقة وتاريخها، واستمرت العقلية المتجسدة في الاتفاقية في التحقيق طوال تاريخ القرن العشرين كغيمة سوداء فوق الشرق الأوسط.

هكذا وضع أردوغان المشرط على الجرح الممتلئ بالصديد، والذي سينفجر في وجه العالم.. لقد كانت هذه الاتفاقية هي الغيمة السوداء كما وصفها أردوغان التي تملأ المنطقة ظلماً وكآبة.

والعقلية الاستعمارية التي أنتجت اتفاقية سايكس بيكو مازالت مستمرة في تشكيل العالم، حيث يقول رجب طيب أردوغان: في القرن الحادي والعشرين ظهرت العقلية نفسها مجدداً، ومعظم المشاكل التي تواجهها منطقتنا اليوم إنما هي من نتاج ذلك النظام وتلك العقلية.

ويستمر أردوغان في شرح دور العقلية الاستعمارية في تشكيل أزمات العالم فيقول: أضحى هذا النظام (الاستعماري) مؤهلاً لتهديد أمان الجميع، حتى أجبر الملايين من الناس الذين فقدوا الأمن على أرواحهم وممتلكاتهم في أوطانهم على الهجرة القهرية.. فالدول التي رسمت حدودها بشكل مصطنع – بالمسطرة – على الخريطة كنتيجة للعقلية الإمبريالية الجيوسياسية بعد الحرب العالمية الأولى، تحاول إعادة رسم حدودها من جديد في ظل الحروب الأهلية.

أزمة الحوكمة العالمية

يقول رجب طيب أردوغان: إن الأزمة الاقتصادية التي بدأت عام 2008 كشفت عن هشاشة النظام الاقتصادي العالمي بكل وضوح، وأدت بدورها إلى صعود الاقتصادات غير الغربية.

وقد تبعت الأزمة الاقتصادية أزمة الحوكمة العالمية التي بدأت مع حلول 2010، وإذا كان نزول الشعوب العربية في الشرق الأوسط إلى الشوارع مطالبين بلقمة العيش والعدالة الاجتماعية والحرية قد أشعل بصيص أمل لمستقبل الشرق الأوسط، إلا أنه مكن الغرب من الحصول على أهدافه المتركزة على مصالحه لا مصالح الشعوب، وعلى استمرار الوضع الراهن، وذلك بسبب موقفه البعيد كل البعد عن الصدق.

يضيف أردوغان: بينما كان الشعب البريء يقتل بوحشية في سوريا، أصبح آلاف الأشخاص في مصر أهدافاً مفتوحة، وفقد ما يزيد على ألف شخص أرواحهم في ميدان رابعة في ليلة واحدة.

وبعد أن أخفق المجتمع الدولي في التغلب على الأزمة الأمنية أولاً، ثم على الأزمة الاقتصادية ثانياً، ها هو يواجه أزمة سياسية عميقة.

بعد أزمة كورونا

بذلك يشكل رجب طيب أردوغان صورة متكاملة للأزمة العالمية، لكن الأزمة مازالت تتطور حيث حولت جائحة كورونا وجهة الأزمة الحالية للسياسة العالمية إلى منحى جديد، وصار النظام الدولي يشكل موضع تساؤل، وأصبح السؤال: ما عاقبة النظام السياسي الذي طرح بعد الحرب الباردة؟ ومن سيتولى قيادة العالم؟ وما القوى الرائدة الجديدة، ومن سيقود الحوكمة العالمية؟

بعد أن يطرح أردوغان هذه الأسئلة الصعبة يقول: إنه ليس من الممكن إعطاء إجابات كاملة عن هذه الأسئلة، إنما بوسعنا توصيف هذا الوضع الجديد للسياسة العالمية.. وندرك جلياً أن السياسة الدولية ستكون ذات طابع متعدد الأقطاب أكثر بعد جائحة كورونا، وأن المزيد من القوى ستكون فاعلة ومؤثرة في النظام الدولي.

الحاجة لمراجعة شاملة

إن بناء المستقبل يحتاج إلى مراجعة شاملة، ورجب طيب أردوغان يستمر في رسم صورة الواقع حيث يقول: إن السياسة العالمية تعاني حالة ارتباك مستمرة، فالظلم والحروب مسيطرة في كل أنحاء العالم، والقوى العظمى لا تولي اهتماماً كافياً للمواضيع التي لا تتعلق بمصالحها الوطنية، ويفقد مئات الآلاف من الناس حياتهم في الحروب الأهلية، والإرهاب يهدد العالم أجمع، وموجات اللاجئين والمهجرين في ازدياد، وتغير المناخ العالمي لا يهدد مناطق معينة فحسب، بل البشرية جمعاء.

يحاول رجب طيب أردوغان أن يزيد صورة الواقع العالمي وضوحاً فيقول: إن المؤسسات الدولية لم تكن عادلة قط، وقد خدمت على الدوام السعي للهيمنة الدولية، وتركت الأمم المتحدة لأهواء الأعضاء الخمسة، وأصبحت مؤسسة مكرسة لخدمة الولايات المتحدة الأمريكية، وتحولت مؤسسات مثل: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى أدوات للسعي وراء الهيمنة واستخدمت للتدخل في سياسات الدول النامية واقتصادياتها.

يقول أردوغان إن التحديات التي تواجه النظام العالمي أصبحت غير قابلة للحل، ويمكن أن تتحول إلى صراعات بين الدول.

لذلك لا يمكن لهذا النظام الجائر أن يستمر، فالمفهوم الذي لا يقدر الإنسان لمجرد كونه إنساناً لا يمكنه أن يضمن الأمن والسلام العالميين، فلا يمكن منع تصحر الأرض في عالم يشهد تصحر الضمير، فيجب علينا أولاً إثراء الضمائر بالعدالة واحترام الآخر والسلام والرحمة.

لكن كيف يمكن تحقيق السلام للأجيال القادمة؟!

يجيب رجب طيب أردوغان على ذلك: لقد حان وقت إظهار القيادة مع الوعي بمسؤولياتنا الوجدانية، والحرص على معالجة المشاكل بعزم وإصرار، وإلا فستبقى الأرض تحت حكم مظلم.

إن البشر يعانون في كثير من البلاد الجوع والأوبئة والبؤس والجهل، ومصدر مشكلة الجوع في أفريقيا هو الظلم العالمي.

لكن كيف يمكن مواجهة هذا الظلم ومقاومته؟! يقول أردوغان: إن علينا أن نقف مع المظلوم وقفة حماية، ونقف في وجه الظالم وقفة ردع.

إن العدالة تعني أن تعطي صاحب الحق حقه، وتوقف الظالم عند حده، ويجب أن يجد كل منهما ما يقابله في ضمير المجتمع الدولي

يضيف أردوغان: فكروا في الشعب الفلسطيني الجرح النازف منذ سنوات.. هل يمكن للمفهوم الذى يعمل على نزع الأرض من هذا الشعب أن يكون له مكان في الضمير العالمي؟ هل يمكن للضمير العالمي الذي يصمت أمام الظلم أن يحقق العدالة تحت سقف الأمم المتحدة؟

يجب أن يكون للعدالة ضمير قبل كل شيء.

يقول أردوغان: إن مشكلة العدالة العالمية تظهر نفسها بأشكال مختلفة، وأحد هذه الأشكال هو عجز المنظمات الدولية عن العمل بشكل فعال.

وكما ترون اليوم هناك أحداث مأساوية يدمي لها الضمير الإنساني تقع في سوريا والعراق وفلسطين ومصر وفي العديد من البلدان الأخرى.

والمجتمع الدولي يقف متفرجاً على هذه الأحداث، في الوقت الذي ينبغي فيه أن يبادر للعمل بشكل فعال في هذا الشأن، وكذلك الحال بالنسبة للمؤسسات التي يجب عليها التدخل في معالجة هذه المشاكل، فهي تؤدي دورا يشجع على هذه الأحداث بسبب بنيتها المشوهة المتهالكة.

يضيف أردوغان: لن ينعم ضمير الإنسانية بالطمأنينة ما استمر في سفك دماء الأطفال والنساء والناس الأبرياء في سبيل حسابات سياسية قذرة.

هكذا تمكن أردوغان من تقديم صورة عامة للأزمة التي يواجهها العالم؛ فأوضح أن الظلم هو أهم العوامل التي شكلت هذه الأزمة، وأن الكفاح من أجل تحقيق العدالة، وإيجاد ضمير الإنسانية هو الطريق لبناء المستقبل.

المصدر : الجزيرة مباشر