ماسح الأحذية من السجن إلى القصر!

لولا دا سيلفا

“لقد علّمتني أمي كيف أمشي مرفوعَ الرأس، وكيف أحترمُ نفسي حتى يحترمني الآخرون”.. هذه العبارة قالها لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي فاز مؤخرًا برئاسة البرازيل ضد القائد العسكري السابق، الرئيس الحالي، جايير بولسونار.

نشأ “لولا” في أسرة فقيرة، وربّته أمه هو وإخوته السبعة في حجرة ضيّقة في منطقة فقيرة بعد أن تزوج والده بأخرى، فترك الدراسة مبكرًا؛ لكي يعمل، فامتهن مهنًا متعددة، منها ماسح للأحذيةٍ، وصبي في محطة وقود، ثم حرفي في ورشة، وبعد ذلك ميكانيكي لإصلاح السيارات، وأخيرًا بائع خضراوات.

فقْدُ أصبعٍ جعله ناشطًا عماليًّا

كل هذه الظروف جعلت من “لولا” رجلًا قويًّا، إلى أنْ تعرّض لحادثة في سن الـ 19 من عمره أثناء عمله في أحد مصانع قطع غيار السيارات، مما أدى إلى فقدانه الأصبع الخنصر في يده اليسرى.

وبعد هذه الحادثة انضم “لولا” إلى نقابة عمالية، بهدف تحسين أوضاع العمال؛ حيث إنه عانَى كثيرًا ليحصل على العلاج.

أثرت تلك الحادثة في نفسية “لولا”، فبدأ يفكر في حق العمال؛ مما دفعه للمشاركة في اتحاد نقابة العمال، بهدف الدفاع عن حقوقهم، وتحسين مستواهم، وتحريرهم من قسوة أصحاب الأموال عليهم.

وظهر اجتهاد “دا سيلفا” في أوائل العشرينيات من عمره حينما مارس العمل النقابي، ونجح فيه بمساعدة أخيه فريرا دا سيلفا، فاستطاع أن يحتلّ منصب نائب رئيس نقابة عمال الحديد في عام 1967م بعد أن تخلّى أخوه عن المنصب، ثم انتُخِب “لولا” رئيسًا للنقابة في عام 1978م، وكانت النقابة تضم في ذلك الوقت نحو 100 ألف عامل.

السجن والاعتقال

وفي عام 1980م، وأثناء إضراب للمصانع في فترة سيطرة الجيش على الحكومة؛ ترأس “دا سيلفا” خطابًا لنقابات العمال الصناعيين، وكانت خطاباته معارضة للحكومة، فأدى ذلك إلى احتجازه لمدة 30 يومًا.

وفي عام 1981م حكمت عليه المحكمة العسكرية بالسجن لمدة 3 سنوات ونصف بتهمة التحريض؛ ولكن أُطلِق سراحه في عام 1982م، وفي العام نفسه، شارك في أول انتخابات لحكومة ساو باولو؛ لكنه خسر.

وفي عام 1984م شارك في حملة انتخابية لإعادة الديمقراطية إلى البرازيل، وعودة حق الرئاسة المباشرة، وقد حققت هذه الحَملةُ نجاحًا في الانتخابات الرئاسية لعام 1984م، وفي عام 1986م انتُخب نائبًا عن ولاية ساو باولو، وفي عام 1988م شارك في صياغة الدستور.

وفي عام 1989م عُقدت أول انتخابات رئاسية مباشرة منذ الانقلاب العسكري في عام 1964م، ورشّح نفسه للرئاسة؛ لكنه هُزم في الجولة الثانية، وعلى الرغم من هزيمته، إلا أنه حافظ على موقعه وحزبه في البرازيل.

رئيس يرفض تعديل الدستور

انتُخب “لولا” رئيسًا عام 2002، ثم أعيد انتخابه سنة 2006، وتسلّم الرئاسة للمرة الأولى في 1 من يناير 2003 وحتى 1 من يناير 2011، وعندما طالبوه بتعديل الدستور، والترشّح بعد انتهاء فترة رئاسته الثانية قال: “ناضلتُ قبل عشرين سنة، ودخلت السجن لمنع الرؤساء من أن يبقَوا في الحكم أطول من المدة القانونية.. كيف أسمح لنفسي أن أفعل ذلك الآن؟!”.

وفي رئاسته السابقة، استطاع أن ينهض بالبرازيل ليجعلها قوة اقتصادية كبرى خلال 8 سنوات فقط، وسدّد ما عليها من ديون، وأصبحت دائنة، وترك فائضًا أكثر من 200 مليار دولار، وأَخرج 20 مليون مواطن من خطّ الفقر، وأعاد 3 ملايين مهاجر برازيلي إلى الوطن، وحوّل البلاد لسادس أقوى قوة اقتصادية في العالم.

أسابيع قليلة تفصل “لولا” عن تولي كرسي الرئاسة في 1 من يناير 2023، وسوف يضطر لمواجهة التيار اليميني، والمؤسسة العسكرية المهيمنة عليه، فهل يستطيع “لولا” -العجوز حاليًّا- المواجهة، وتحقيق برامجه الإصلاحية للبرازيل في ظل الظروف الحالية؟

اليسار يعود في أمريكا الجنوبية

إنّ عودة “لولا” لحكم البرازيل وهو يمثل التيار اليساري والانحياز للفقراء محفوفة بالمواجهات من أطراف تابعة للرئيس الحالي تحاول إثارة بعض الفوضى، فرفضوا النتيجة، كما أن اليمين (المدعوم من الجيش) تظاهر بالآلاف، مطالبًا الجيش بالتدخل.

لذلك، يعدّ الجيش البرازيلي أكبر تحدٍّ أمام “دا سيلفا”.. فهل يتحالف مع أمريكا أم الصين للخروج من المأزق؟

وعلى الرغم من فرحة الكثيرين في العالم بعودة الرئيس البرازيلي اليساري “لولا دا سيلفا” لحكم البلاد، وهزيمة الرئيس اليميني المتطرف، جايير بولسونارو؛ ولكن مهمة “دا سيلفا” تبدو صعبةً للغاية بعد أن أصبحت البرازيل معقلًا لليمين، وتزايُدِ نفوذِ الجيش، وكذلك اضطراره لتحديد إلى مَن سينحاز في الصراع الدولي القائم بين أمريكا وأوروبا في مواجهة الصين وروسيا.

كما سيواجه “لولا” الكونغرس ومجلس الشيوخ المعادييْن له بشدة، وحتى حكام الولايات الموالين لبولسوناريو؛ ولكن تبقَى حقيقة فوز اليسار في دول أمريكا الجنوبية أمرًا واقعًا، فمنذ عام 2018 فاز مرشحو يسار الوسط بالانتخابات الرئاسية في الأرجنتين، وبوليفيا، وتشيلي، والمكسيك، وبيرو، وكولومبيا، ليصبح التيار اليساري -حاليًّا- أقوى في أمريكا اللاتينية منه في أي بقعة أخرى من العالم.

وعلى الرغم من انتصارات اليسار، وقرب سيطرته شبه الكاملة على القارة اللاتينية؛ إلا أنه من الصعب الجزمُ بأنه المنقذ للقارة الجنوبية من الفقر، فالأمر متوقّفٌ على قدرة كل رئيس داخل دولته على تحقيق العدالة الاجتماعية دون شعوبية، والاستقلال عن النفوذ الأمريكي، والقضاء على الفساد دون التضحية بالكفاءة الاقتصادية.

المصدر : الجزيرة مباشر