صالحة علام تكتب من إسطنبول: شارع الاستقلال المسرح الدائم للعمليات التفجيرية.. من فعلها؟!

وفقا لتقييم نوع العملية، وأسلوب تنفيذها، واختيار مكان التنفيذ وتوقيته، يمكن لمن يعرف تاريخ تركيا جيدا أن يرجح على الفور هوية من قام بهذا الاعتداء

شارع الاستقلال بعد الحادث

عقب الانفجار الذي شهده شارع الاستقلال بميدان تقسيم، وأدى إلى وقوع خسائر بشرية ومالية كبيرة، ووجهت الاتهامات إلى العديد من الجهات التي يمكن أن تقف وراء مثل هذا الحادث الدموي، والذي أودى بحياة ثمانية أشخاص وجرح وإصابة 81 من المدنيين الأبرياء، الذين لا ناقة لهم ولا جمل في أي خلاف أيا كان سببه، يمكن أن يكون وراء ارتكاب هذا الحادث البشع،  إلى جانب الخسائر المادية التي لم يتم حصرها بعد.

هناك من رجح أن يكون الفاعل: تنظيم الدولة، في ادعاء بأنه انقلب على تركيا التي ساعدته في البداية ثم قررت أن تسحب دعمها له تحت ضغوط دولية هائلة تعرضت لها مؤخرا، وهناك من رأي أن جماعة فتح الله غولان تقف وراءه انتقاما لما تعرضت له على يد الدولة ولعناصرها داخل السجون التركية. ورغم ذلك فلا أحد يستطيع توجيه أصابع الاتهام مباشرة إلى أي فصيل أو منظمة إلا وفق عدد من المعطيات التي يمكن أن تزيح الستار، وتفصح عن هوية من يقف وراء هذه العملية التفجيرية.

نوع العملية، وأسلوب تنفيذها وتحديد مكانها عناصر تكشف عن هوية الفاعل

وفي الحقيقة فإنه وفقا لتقييم نوع العملية، وأسلوب تنفيذها، واختيار مكان التنفيذ وتوقيته، يمكن لمن يعرف تاريخ تركيا جيدا أن يرجح على الفور هوية من قام بهذا الاعتداء، وفي هذا الإطار يمكننا الحديث عن حزب العمال الكردستاني بالتحديد، خصوصا وأنه صاحب هذا التكنيك الذي تمت به العملية، وأول من استخدمه ضد الدولة التركية في صراعه معها، والممتد منذ عقود.

ولهذا فإنه ليس من المستغرب أن يكون هذا التفجير قد أعاد الانفجار إلى أذهان الأتراك الكثير من المآسي والحوادث التي شهدها نفس الشارع في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي ، وأسفرت عن الكثير من الخسائر في الأرواح والأموال، وسببت حالة من الذعر بين قاطني المنطقة وزائريها مما دفع وزارة الداخلية آنذاك إلى تكثيف الوجود الأمني فيها بصورة واضحة للعيان، حيث ترصت العشرات من سيارات الشرطة، وأفرا الأمن المدججين بالسلاح، ووضعت الحواجز الحديدية على مداخل الميدان، وشارع تقسيم، والشوارع المتفرعة عنه، وقامت بعمليات تفتيش لبعض المارة.

رمزية اختيار المكان والزمان

كل ذلك بهدف التصدي إلى أي محاولة تستهدف المساس بأمن المنطقة، وسلامة الموجودين بها، بعد أن تحولت إلى مسرح دائم ومفضل لعمليات حزب العمال الكردستاني ضد الدولة التركية، في رمزية تشير إلى أن أساس الصراع القائم والمستمر بين الأكراد والدولة التركية، منذ إنشاء الحزب وفصائله المسلحة في سبعينيات القرن الماضي، هو صراع بين الجمهورية التي تمثل القومية التركية، ومطالب الحزب الذي يمثل الأقلية الكردية الراغبة في الاستقلال وإقامة دولة كردية تجمع تحت مظلتها الأكراد، هؤلاء الذين ظلوا داخل حدود الجمهورية التركية عند إعلانها بعد انهيار الدولة العثمانية التي عاشوا في كنفها قرونا.

ومن هذا المنطلق كان ميدان تقسيم وشارع الاستقلال تحديدا هو الخيار الأمثل لقيام العناصر المسلحة الكردية بتنفيذ عملياتهم تأكيدا على هوية الصراع ومسبباته، إلى جانب إثارة حالة من الرعب والخوف لدى الأجانب والزائرين للمنطقة بهدف توجيه ضربة موجعة لقطاع السياحة، أحد أهم مصادر الدخل التركي.

لماذا الآن، وما هو الهدف، وما الرسالة من وراء هذا التفجير؟

لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة يتمثل في التوقيت، فلماذا الآن، وما هي الرسالة التي يبعث بها الحزب من وراء اختيار امرأة لأداء هذه المهمة؟ وما الهدف الذي يسعى إليه من وراء العودة إلى اجترار الصورة القديمة لعملياته التفجيرية في الداخل التركي بعيدا عن المناطق الحدودية؟!
الإجابة عن هذه الأسئلة ربما تتيح رؤية أفضل للحدث وتداعياته وما يجب الاحتراز منه لاحقا.

أما بالنسبة للتوقيت، فهو يتزامن مع عدد من التحركات التركية التي أسفرت عن إلقاء القبض على عدد من قيادات الحزب في الشمال بكل من العراق وسوريا. فوفق ما أعلنته وزارة الدفاع التركية فتم القبض على 455 فردا من الحزب، وتدمير 557 مغارة وملجأ وضبط 1203 قطع أسلحة بينها صواريخ مضادة للدروع، ومضادات طيران، وبنادق قناصة وغيرها من الأسلحة، كما تم تدمير 1904 من الألغام والعبوات الناسفة،  التي كانت بحوزة المسلحين الأكراد المنتمين للعمال الكردستاني وأذرعه المختلفه، وذلك خلال العملية المسماه ” المخلب – القفل”، وهي العملية التي أطلقها الجيش التركي في منتصف أبريل/ نيسان في شمال العراق، والمستمرة حتي الآن.

ومؤخرا الإعلان عن قيام القوات التركية الموجودة في الشمال السوري بالقبض على كل من قيس برهو سوليف مسؤول التنظيم في منطقة عين عيسى شمال سوريا، وأرسين شاهين المسؤول عما يسمى كتيبة ” دريك” إحدى كتائب الحزب الموجودة على الشريط الحدودي مع سوريا، وهو ما يعني أن المسلحين سواء في شمال العراق أو سوريا، وكذلك تلك الموجودة في المناطق الحدودية تعرضت مؤخرا لخسائر فادحة سواء في الأفراد أو المعدات العسكرية…

إلى جانب الخسائر التي مُني بها العمال الكردستاني جراء العمليات العسكرية التي قام بها الجيش التركي في الشمال السوري، وهو ما يبدو أحد الأسباب التي دعت قيادات الحزب إلى التفكير للعودة مجددا إلى الأسلوب القديم في مواجهة الدولة التركية، وهو القيام بعمليات تفجيرية في الداخل، وخصوصا في المناطق المكتظة بالزائرين والمقيمين معا بهدف إحراج الدولة، ووضعها في موضع استنفار داخلي، إلى جانب إفقادها ولو جزء من مصادر دخلها السياحي، وبالتالي يعود ميدان تقسيم وشارع الاستقلال إلى الواجهة من جديد كمسرح لهذه النوعية من العمليات التفجيرية.

المرأة ورمزية استمرار القتال والانتقام لسمرا غوزال

أما تقديم امرأة للقيام بهذه المهمة، فهي إشارة على ما يبدو إلى أنه إذا كانت تركيا ستظل تلاحق المقاتلين من الرجال بالاعتقالات فإن الحزب لديه عدد لا يستهان به من المقاتلات المستعدات للتضحية بأنفسهن في سبيل تحقيق مطالب الأكراد، تقديم النساء كقرابين في عمليات العمال الكردستاني الانتحارية ليست جديدة ولكنها آخذة في الازدياد، ففي السابع والعشرين من شهر سبتمبر/ أيلول الماضي قامت مسلحتان كرديتان بفتح النار على قوات الشرطة في مدين مرسين الساحلية جنوب تركيا مما أسفر عن مقتل ضابط شرطة وجرح آخر، ثم قامتا بتفجير نفسيهما عقب ذلك.

وفي عام 2018 وبالتحديد أثناء عملية “غصن الزيتون” التي قامت بها القوات التركية في شمال سوريا، أقدمت مسلحة كردية على تفجير نفسها في عدد من الجنود الأتراك في عفرين، مما أدى إلى تدمير دبابة ومقتل عدد من الجنود.

أما على الصعيد السياسي فمع دخول تركيا مرحلة الاستعدادات لخوض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وقيام الأحزاب المختلفة بالتشاور لتشكيل ائتلافات سياسية، ووضع أجندتها الخاصة بتقسيم المناطق واختيار المرشحين، تم استبعاد حزب الشعوب الديمقراطي الذي يمثل الأكراد من “ائتلاف الطاولة” الذي يضم أحزاب المعارضة الستة الرئيسية على الساحة التركية، وذلك على خلفية الكشف عن علاقة نائبته سمرة غوزال بحزب العمال الكردستاني، ونشر صور لها مع أحد مسلحيه بجبال قنديل، عثر عليها في هاتفه بعد مقتله عقب مواجهة مسلحة مع القوات التركية، مما أدى إلى إلقاء القبض على النائبة بعد رفع الحصانة البرلمانية عنها، وتوجيه تهم لها تتعلق بالإرهاب.

تقويض دعائم حزب الشعوب الديمقراطي والتهديد بحظره

إلى جانب الاتهامات التي وجهت لحزب الشعوب الديمقراطي نفسه من جانب المدعي العام التركي بأنه الذراع السياسية لحزب العمال الكردستاني، وهي الاتهامات التي يمكن أن تؤدي إلى حظره وإغلاق الحزب من جانب المحكمة الدستورية في الدعوى المرفوعة ضده من المحكمة الإدارية العليا…

بينما تتهمه الحكومة بتسهيل عمليات الخطف التي يتعرض لها المراهقون من الشباب والفتيات الأكراد في شمال شرق تركيا، ويتم إرسالهم إلى جبال قنديل في شمال العراق لتدريبهم على القتال وحمل السلاح ضد الدولة التركية، ومما زاد الأمور سوءا قيام أمهات هؤلاء المراهقين بالاعتصام أمام مقر الحزب مطالبين باستعادة أبنائهم من براثن الموت الذي يهدد حياتهم.

وهو ما أدى إلى تخلي الأحزاب السياسية عن التعامل بصورة علنية مع الشعوب الديمقراطي وقياداته، وتفضيل السرية في أية تفاهمات انتخابية معه، وعلى رأس هذه الأحزاب، حزب الشعب الجمهوري، الذي أصبح يفضل التعامل مع قيادات الأكراد لضمان تصويت الأكراد لصالحه في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، ويعقد معهم التفاهمات بشكل سري، وفق تصريحات بعض المسؤولين في الحكومة…

وهي الضغوط التي تقف على ما يبدو وراء قرار قيادت حزب العمال الكردستاني بالعودة إلى الأسلوب القديم في التعامل مع الدولة التركية، والقيام بعمليات تفجيرية تقض مضجع الدولة التركية حكومة وشعبا، لعل هذا ما يدفعها مرة أخرى إلى التفاوض مع الحزب من أجل إيجاد حل نهائي لهذه القضية التي طال أمدها، وهو ما يمكن أن يشير إلى أن هذه العملية بداية مرحلة جديدة للصراع بين الجانبين.

المصدر : الجزيرة مباشر