“العودة إلى الوطن” مؤامرة سينمائية صينية على ثورات العرب!

عرض فيلم "العودة إلى الوطن"

يعيد الحزب الشيوعي الصيني كتابة التاريخ، كل فترة زمنية، ليصنع للشعب رواية عن الأحداث، لا يمكن الحيد عنها في المدارس والجامعات والإعلام والمراكز البحثية. يدعي الحزب أن هذه الوسيلة تجعل الشعب منسجما مع الماضي، ومتوحدا في مواجهة المستقبل.

عندما يرسم الحزب السيناريو، يضيف ما يشاء ويلغي رموزا وتواريخ وشخصيات، مستغلا القبضة القوية على الإعلام والجامعات والإنترنت والمراكز العلمية وأرشيف الدولة، لإقناع الأجيال الجديدة بأن هناك رواية وحيدة للتاريخ.

يتجاهل الحزب الشيوعي ما يُكتب عما يجري بالصين في الخارج، يهاجم العائدين منه بأفكار ومعلومات لا تروق لقادته، مستفيدا من “الكتائب الإلكترونية” وشبيبة الحزب القوميين المتعصبين في تتبّع وتشويه كل من ينشر معلومة مخالفة لروايته الرسمية بشأن قضية أو موقف عام.

أحداث ساخنة

عايشت أحداثًا عن قرب مع مسؤولين صينيين كبار بوزارة الخارجية وجامعة بيجين وسفارتهم في القاهرة، أثناء الثورة التونسية، إلى أن هرب رئيسها زين العابدين بن علي خارج البلاد. شاهدت الهلع الذي أصاب المسؤولين من تلك الثورة، فطلبوا المعونة من قيادات مصرية، والاستماع لنا في اجتماعات بمقر سفارتهم بالقاهرة، بشأن ما يحدث في تونس. اتهمني بعضهم بالمبالغة عندما قلت: إذا نجحت ثورة تونس ووصلت إلى القاهرة -الملتهبة حينذاك- فإن ذلك سيتبعه ثورات في ليبيا، وقد تمتد إلى الجزائر وسوريا وتتجه إلى اليمن والعراق وأغلب الدول العربية.

طلبت أثناء عملي مستشارا لمؤسسة إعلامية صينية رسمية، أن يستعدوا لإنقاذ الصينيين البالغ تعدادهم نحو 350 ألف نسمة بالمنطقة، قبل أن يفوت الأوان. تلكأ الصينيون، لمراهنتهم على قوة الأنظمة القائمة، إلى أن بدأت أحداث ثورة 25 يناير في مصر، فوجدت السلطات الصينية نفسها في ورطة، لا تعرف كيف تخرج منها!

شاركت مع مجموعة من الزملاء المصريين بتقديم مساعدات لأصدقائنا الصينيين، الذين طلبت منهم السفارة عدم مغادرة منازلهم، مع فرض حظر التجوال، وانتشار الفوضى في الشوارع. كنا نمر عليهم بالبيوت، نلبي طلباتهم، ونطمئنهم باستقرار الأوضاع، وعدم استهداف الثوار أو غيرهم للأجانب.

على مقهى الفيشاوي

في ذروة الأحداث الساخنة، اصطحبت مسؤولين بسيارتي إلى وسط القاهرة مرارا، جلسنا بمقاهي الحسين والأزهر. عندما انتقلت الثورة إلى ليبيا، وحدث الانفلات الأمني، وقع ما خشيناه، وقعت المنشآت والأفراد في مرمى النيران. أصبحت القاهرة مركز عمليات المصالح الصينية بمنطقة الشرق الأوسط، بعد اطمئنانهم على استقرار وضعها الأمني، وسلامة جالية تعدادها 40 ألف صيني.

أجّلت الكتابة عن هذه الأحداث لأسباب، بعضها مرتبط بمحظورات الأمن القومي، ووجود أصدقاء صينيين بمناصب مهمة في بيجين، ذكرهم يعرّضهم لخطر الإبعاد عن مناصبهم والحزب الشيوعي، الذي يكره خروج معلومات تهمّه إلا عبر قنواته، إلى أن رأيت تزويرا لتاريخ كنت شاهدا على بعض تفاصيله، ما زال أبطاله أحياء.

دعاية درامية

انتجت السينما الصينية فيلما بعنوان “Coming Home” (العودة إلى الوطن)، سوّقته بدور العرض في 30 سبتمبر/أيلول الماضي، مع بداية عطلة طويلة بمناسبة العيد الوطني، تمتد 7 أيام. ينتمي الفيلم إلى أفلام الحركة والتشويق الدرامي، والإنتاج الضخم. تضخ الحكومة مليارات الدولارات سنويا لصناعة هذه النوعية من الأفلام، التي تُظهر -عبر قصص درامية يحبها الصينيون- دور الدولة في حماية شعبها، وسعي قادتها لإنقاذه مهما بعدت المسافات.

أُنتِج الفيلم على غرار “حبكة هوليوود”، مجاراة للفيلم الأمريكي (الهروب الكبير)، مع الفارق لعدم قدرة الصين على الابتعاد عن الدعاية الفجة المباشرة في كتابة الأحداث. يصور الفيلم حكاية إجلاء 35 ألفا و860 صينيا من ليبيا عقب قيام ثورة فبراير/شباط 2011. تحولت الرواية إلى ملحمة وطنية، تمجد دور الحزب الشيوعي وجيش التحرير الشعبي في إنقاذ الليبيين الذين حوصروا في بنغازي لمدة 12 يوما، من “الغوغاء” الذين اقتحموا منشآت صناعية يقيم بها صينيون عزل، فجردوهم من أموالهم ومعداتهم ولم يتركوا لهم إلا قطع عجين “التوفو” والفلفل الحار.

الملحمة الدرامية تصف الأحداث “البربرية” بأنها وقعت في “جمهورية النوبة”، ليتهرب الراوي من مسؤولية الطعن المتعمد في الدول وشعوب ثورات الربيع العربي، رغم أنه يسمي مناطق الصراع كما وردت واقعيا، في بنغازي والسلوم والحدود التونسية.

الراية الحمراء

يعمّق الفيلم المخاطر التي تحمّلها الصينيون من “سلب ونهب وخطف للهويات”، ويدعي منع المصريين من دخول الصينيين عبر السلوم، إلا لمن يحمل جواز السفر. يصور الفيلم قيادة مسؤول صيني قافلة تضم 3000 عامل للهرب بهم عبر الصحراء على الحدود التونسية الليبية، طولها 5 كيلومترات، يوم 24 فبراير، وإصراره على دخول من فقدوا جوازات السفر، بمجرد رفعهم للعلم الوطني، الذي حوّل الصحراء الكبرى إلى ساحة حمراء مرصعة بنجوم العلم الصيني.

يبيّن الفيلم أن الجيش وافق على اقتراح لسفير الصين بدخول السلوم لمن يغني النشيد الوطني الصيني، باعتباره جواز مرور للآلاف الذين توافدوا للهرب من الحرب. حوّل الفيلم النشيد إلى ملحمة وطنية يرددها كل فرد، أثناء إجلائهم من ليبيا عبر 11 سفينة سياحية و5 تجارية وسفينة حربية صينية، إلى جزيرة كريت، ومنها إلى “الوطن الأم” عبر 120 رحلة طيران مؤجرة، وعشرات الطائرات العسكرية، ولم يشر إلى دور مصر في ترحيل هؤلاء وإنقاذهم من أن يظلوا رهائن في ليبيا.

متآمر يجني الأرباح

تلعب “تيمة” الفيلم -الذي جاء في المركز الخامس بإيرادات شباك التذاكر بلغت الأسبوع الماضي 88 مليون دولار لموسم سينمائي متراجع بنسبة 70% عن إيرادات عام 2021- على تخويف الجمهور من الثورات، ووصف من يشارك فيها بالغوغاء والقتلة واللصوص، بينما “الوطن لن يتخلّ عن أي مواطن وسيعيد الجميع حتما إلى أحضانه”، كما قال نائب وزير الخارجية (ما شو) مفتخرا بافتتاح الفيلم، أثناء المؤتمر العام للحزب الشيوعي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

نسي الصينيون دور الناس الذين حموا أهلهم وأخرجوا عمالهم سالمين، على سفن حربية مصرية وصينية من السلوم وتونس، وترحيبهم بهم وشركاتهم في القاهرة والجزائر والمغرب والعراق وحتى سوريا، ليجنوا أرباح ثورات تآمر الجميع عليها، ولم تهنأ بها الشعوب.

المصدر : الجزيرة مباشر