ماذا قال البهي الخولي للقرضاوي؟!

الشيخ يوسف القرضاوي

هناك جانب في غاية الأهمية لم يتضح بعد في حياة القرضاوي رحمه الله، وهو جانب الرسائل الخاصة التي بينه وأساتذته، فقد كتب عدد من أقران القرضاوي وأساتذته مقالات عنه وهو وهم أحياء، مثل كتاب: (يوسف القرضاوي.. كلمات في تكريمه) فرأينا مقالات لأساتذة له، مثل: محمد الغزالي، أبو الحسن الندوي، عبد الفتاح أبو غدة، مصطفى الزرقا، وغيرهم، لكن الجانب الأهم هنا والذي لم ينشر بعد للأسف، هو الرسائل الخاصة المتبادلة بين القرضاوي وأساتذته وأقرانه من العلماء، وهي رسائل تحمل كما هائلا من التقدير، وكما هائلا من العلم والخبرات المتبادلة.

رسالة نفيسة من البهي للقرضاوي:

من هؤلاء: أحد أهم شيوخ القرضاوي، بل وأبرزهم وأكثرهم تأثيرا فيه في الجانب العلمي والروحي، وهو الأستاذ البهي الخولي، وقد كان البهي قرينا لحسن البنا، وكاتبا معروفا له مؤلفات في غاية الأهمية في الفكر الإسلامي المعاصر، وقد جرت بينهما مراسلات عدة، منها رسالة، وقفت أمامها طويلا، من حيث عمق الجانب الإنساني، وعمق الجانب الفكري الكبير، والجانب الروحي، في رسالة قد تكون من باب التواصل الإنساني العادي، لكن العظام والكبار دائما يحملون بين ثنايا كلماتهم دروسا بالغة الأهمية، وأنشر الرسالة الآن، ثم أعقب ببعض تعليقات تبرز بعض الجوانب فيها.

أخي العزيز الكريم الأستاذ يوسف.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأرجو أن تكون مع أنجالك والسيدة قرينتك بأفضل ما تحبون، ونحب لكم، ويحب الله منكم رفاهة وخير..

جاءت رسالتك في العيد حاملة كعادتها عبيرا فيه أنس، ومودة، ونور، وأمل غامض… وبنفسي الآن من الضعف أو الأسى لا يقويه أو يشفيه إلا مثل هذه الرسالة.. إنني كدارع ذهب درعه، ووقف لانتفاضات البرد القارس وسهامه.. ذلك إلى أن نفسي تلبس كل يوم لونا من التفكير، فهي في قلق مستمر تبدل خلاله من آن لآخر ثوبا تظل تعتمده أساسا لتفكيرها حتى تبليه وتستبدل به آخر جديدا.. وفي كل ثوب أحس أني به غريب..

إن فكرة الدين تطورت عندي مفهوما راسخا عميقا على غاية الوضوح والقوة.. فحقيقة الإنسان هي (إنسانيته)، وإنسانيته هي استعداده العلوي الذي يتضمن حقيقة قيمه ومثله.. وهذا الاستعداد معارض في بشرية الإنسان بآفات من الشح والفردية، والبغي، والطغيان، تسطو عليه كأنها أخطبوط يخنقه ويعوق نموه حتى لا يحقق ثمره الإنساني في ظاهر الحياة.. لا يحرر هذا الاستعداء الروحي، ويطلقه في ضمير الإنسان كائنا إيجابيا له أثره وثمره إلا ظروف عدة أساسها وقوامها التفكير الروحي في آيات الكون، أو في دلالات تلك الآيات على معاني صفات الله تعالى، على أن يقترن إدراك معنى كل صفة بوجدان يماثلها على نحو الوجدانات التي يستشعرها زائر أي معرض فني حين ينفعل بمستواه الفني..

فثمت دلالات تستبين فيها معنى صفة العظمة والحكمة وما إليها، ولكن لا يكون الفهم كاملا، بل لا يكون للفهم أي قيمة إلا إذا انبثق في الضمير مع هذا الفهم وجدان من الجلال والخشوع يجانس معنى الصفة التي فهمت.. وتحت دلالات تستبين فيها إتقان الصنع وإحسان الخلق، ولا بد أن يقترن بإدراكها وجدان من تمجيد الخالق، وإعزاز الخلق إعزازا يحمله على حسن التصرف مع كل كائن جمادا كان أم حيوانا في تفصيل لا مجال للتعرض… وتحت دلالات تستبين فيها الإرادة الخيرة الودود التي لا تفتأ تتطلف بإسداء مختلف النعم إلى الإنسان، وقد فصلتها له تفصيلا عن عمد، متحرية أن تكون ملائمة لذوقه، وطبائعه ومصالحه؛ ولا تكون استبانة تلك الحقائق مجدية إلا إذا صحبها إحساس أو وجدان من حب المنعم وشكره.. وهو إحساس من شأنه أن يبرئ بشرية الإنسان من عقد الكراهة والشح، ويطلق همته على سماحتها بالود والكرم والمواساة…

إن هذا التفكير بوجداناته المختلفة هو الدواء الحاسم في قطع أدواء البشرية، وهو الرحيق الذي يحمل معين الحياة والقوة (لإنسانية) الإنسان، فتكون ذات إيجابية وانطلاق وإلحاح في تحقيق مثل الخير والحق، لأنها بهذا الإلحاح إنما تحقق ذاتها، أو تكمل تحقيق ذاتها.. فإن حياة إنسانية الإنسان هي في هذا التفكير الوجداني، وفي تصديقه بالعمل على ما هو معروف في آيات القرآن… والتفكير فيما يتجلى في ذهني الآن هو أعلى مراتب العبادة – وينطوي في ذلك عباداتنا المعروفة – والعمل هو النتيجة المحتومة لذلك التفكير متى كان صادقا.. وأحيل بذلك إلى قوله تعالى الذي يجمع الدين بأسره: (واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) الحج: 77.

والمال بعد ذلك ليس إلا وسيلة خلقها الله للإنسان لتكون إحدى الوسائل المعينة على تحقيق تلك الغايات…. إن تطور مفهوم الدين إلى هذا المعنى الذي لا يتعذر الاستشهاد له بالآيات يستبد جدا بنفسي استبدادا أحس معه ألا أمل إطلاقا في نصر الإسلام إلا إذا انبعث قادة المسلمين بهذا الوجدان، وبهذا الفهم، وبهذه الهمة التي ترى في عمل الخير حياة، وسعادة لها… ولكن أين من يسمع والكل – فيما أعلم – قد استكانوا، بل استحبوا، بل استحلوا فعل الأخطبوط بإنسانيتهم إذ يخنقها ويبيد منها مثلها ويحرمها مصدر قوتها، وحياتها وتأييدها.. ولا نجاح بدون عمل، ولا عمل بدون فهم وبناء على أساس سليم…

انتقاد البهي لفتاوى أزهريين:

أليست هذه غربة.. أوليس ما يزيد تلك الغربة كربة أن ينشر الدكتور ماضي غداة عيد الأضحى باعتباره شيخا للأزهر بالنيابة مخاطبا الأمة الإسلامية قاطبة بأن حكمة الأعياد واختيارها إنما جاءت مؤسسة على تحلل النفس الإنسانية من بعض القيود، لأن الخالق تعال يريد أن يمنح عباده فرصة (للاستجمام الروحي والبدني)، والاستجمام البدني معروف مقبول، أما استجمام الروح من معرفة الله وطاعته فلا أدري له معنى.. وكأن فضيلة الشيخ بالنيابة لم يكفه أن يغيب عنه مفهوم عصري عملي لفكرة الدين حتى جاء بهذا الكلام الغامض، الذي يجعل (اختيار الأعياد مؤسسا على تحلل النفس من بعض القيود، دون أن يذكر أي تفسير لتلك القيود، ودون أن يبين مراده بالاستجمام الروحي..

ويسبقه الشيخ أحمد الشرباصي بفتوى عن خروف العيد بأن الضحية سنة للحجاج نظير ما يتركون من أعمال الحج أو ما يقعون فيه من محظورات… أما غير الحجاج في مشارق الأرض ومغاربها فيضحون فقط مشاركة للحجاج، والجزء الأول من الفتوى فيه ما فيه من الخطأ أو على الأقل عدم دقة في التعبير، أما أن غير الحجاج إنما يضحون فقط مشاركة للحجاج فإنه إذا كان جهلا كان استهانة من رجل أزهري بالدين إذ يتكلم فيه بغير علم، وإذا كانت الفتوى تعمدت إخفاء ما سن رسول الله في الأضحية وما ورد فيها من أحاديث تجعلها واجبا عن قوم، وسنة عند آخرين، فلحساب من تخفى سنة رسول الله عن غير الحجاج في مشارق الأرض ومغاربها..

أما كفاهم أنهم عوامل سلبية في خدمة الدين حتى جاءوا يطفئون سننه ويخفون نصوصه؟.. وذهب الشيخ يتظرف على عادته بأن الأضحية – ما دامت مجرد مشاركة للحجاج – لا يجوز أن تكون سببا للخلاف بين الأسر، مع أنه لا يستطيع هو ولا غيره أن يذكر مثلا واحدا يدل على أن الأضحية كانت في عصر من العصور – ومنها هذا العصر – سببا للخلاف بين الأسر… أليس هذا يا يوسف من السهام التي تضعف الجلد، وتضاعف معه كثافة الغربة…

نقاط التقاء الخولي مع ماركس:

إنني أقرأ الآن في مجموعة من المؤلفات الماركسية، فأجد عمقا، وواقعية، وتنظيما، وإخلاصا من كتابها لما يعتقدونه، على حين لا نجد من إخواننا وهم الأزهر كله إلا أمثال ما عرضت عليك.. لست أومن بشيء مما أقرا، ولكني أحس العمق والنظام والجد والاستماتة في العرض لإقناع الشباب… أجدني مع أقوال ماركس خاصة.. أجدني معه أحيانا كأنا نسير في خطين متوازين ثم أحس بأن خطه انكسر فجأة إلى أسفل حتى بلغ سابع أرض، وأن خطي انكسر صاعدا إلى السماء، حتى بلغ أعلاها.. أو أحس كأنه انكسر إلى اليسار، وانكسرت إلى اليمين…

إنني لا أذوب فيما يكتب هذا الرجل على عمقه وقوة برهنته، لا أذوب لأني أجد جوهر المخالفة في ضميري.. فهو يجرد ضمير الإنسان أو فطرته من أي قيم فاضلة، ومثل عليا، ويعتبرها مجرد أوهام وضلالة، وأنا أجعل وجود الإنسان قائما أصالة على أن (إنسانيته) التي تتضمن جوهر تلك القيم والمثل أي هي حقيقة وجوده… وقد ذكرت أن ذلك يستبد بفكري ووجداني استبدادا يجعلني في غربة ويحملني مع الأسف على أشب العتب على أصدقاء الأزهر إذ أرى فيهم عجز القادرين أو المختفين عن الكمال… لماذا يقرءون ماركس وغير ماركس من الفلاسفة القدامى والمحدثين كي يقدموا الإسلام تقدمته الواجبة الملائمة لهذا العصر…

الدعاء للقرضاوي ومدح عبد الناصر:

لقد أطلت عليك ولكن رسالتك أو عبيرها الزكي حرك في نفسي شجونا… وأكسبها راحة وبردا بعض الشيء، فجزاك الله خيرا على ذكرك لنا، وبرك بعهدنا، وأسأل الله تعالى أن يفتح لك آفاقا من بصائر علمه الروحي أضعاف ما فتح لك من آفاق علمه المنصوص في بطون الموسوعات والأسفار.. وأن ينفعك بعلمه، وينفع الناس بك، وأن يجعل من أرباب الرسالات الذين يذهلون عن أنفسهم وذويهم ودنياهم لقيم بك لدينه منهاجا كاملا يسترد به المسلمون مكانهم في صدارة الأمم، وقد بدأ السيد الرئيس أعزه الله فوطأ النهج، وما على العاملين إلا أن يسيروا على النهج…

وتحياتي لأخي أحمد… ولن أمل تحيته حتى أراني لست أهلا لها.. رعاه الله ووفقه وبلغه من خدمة الإسلام مأموله إنه سميع مجيب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وكل عام وأنتم جميعا بخير.. والحمد لله أولا وآخرا.

البهي الخولي: 14/12/1384هـ – 16/4/1965م).

وقفة مع خلفيات الرسالة:

بعيدا عما طرح في الرسالة من أفكار فلسفية، ودينية مهمة، لكني أقف مع بعض خلفيات الرسالة الشخصية، فمن الواضح أن رسالة البهي الخولي للقرضاوي، كانت ردا على رسالة للقرضاوي، وهي في اعتقادي لا تقل مستوى في الفكر عن رسالة الخولي، فقد كان هذا ديدن القرضاوي في رسائله، وكذلك أساتذته، والرسالة تعبر عن فترة تفكير مر بها أستاذه الخولي، بعد تحول وطول تدبر، ثم انتقاد للخطاب الديني عند عدد من المشايخ الأزهريين.

البهي الخولي هو أحد قدامى الإخوان، وعندما اصطدم الإخوان بعبد الناصر، انحاز لجانبه، ولذا نجد في رسالته تأييدا له، وهي قبل أحداث سنة 1965م، ولذا نراه في السطور الأخيرة، يلمح إلى غضب إخوان القرضاوي من هذه العلاقة، فختمها بقوله: (وتحياتي لأخي أحمد… ولن أمل تحيته حتى أراني لست أهلا لها)، وهي دالة على أناة وحلم الأستاذ على سخط تلامذته على موقفه، وإن ظلوا أوفياء له ولتتلمذهم على يديه، لكنه كان يشعر بوجود العتب والسخط من الموقف.

من الواضح من الرسالة أن القرضاوي لم يكن ممن يحملون على شيخهم، بدليل التواصل المستمر، وأن غيره كان الأشد في الموقف، وهو ما يوضحه رسالة أخرى بين القرضاوي والمستشار عبد الله العقيل، حيث أشار عليه القرضاوي بالاستفادة من علماء أزهريين يؤيدون عبد الناصر، ولكنهم أصحاب علم، ومنهم إخوان قدامى.

المصدر : الجزيرة مباشر