ما بين استقلال إسطنبول وتصعيد اليونان ضد تركيا

التزامن الذي جمع هذا العام بين احتفال مدينة إسطنبول في السادس من أكتوبر بذكرى استقلالها ال99، وتزايد حجم التهديدات اليونانية لتركيا، يعد مصادفة غريبة، خصوصا وأن العامل المشترك الذي جمع بين الحدثين تمثل في ارتباطهما الوثيق بمعاهدة لوزان.

فبها تم إخراج قوات الحلفاء من أراضي الأناضول، وتراقيا الشرقية، ومدينة إسطنبول، التي احتلتها في الحرب العالمية الأولى القوات الفرنسية والإنجليزية والإيطالية على التوالي بدءا من الثاني عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 1918 حتى 4 أكتوبر/ تشرين الأول 1923، وهو نفس اليوم الذي ألغيت فيه السلطنة العثمانية، ليعلن عن قيام الجمهورية التركية في التاسع والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول 1923، وبحلول 1924 وبالتحديد في التاسع من شهر مارس/آذار تم الإعلان رسميا عن انتهاء دولة الخلافة الإسلامية.

ولهذا السبب على وجه الخصوص يغيب المحافظون والإسلاميون عن هذا المشهد تماما رغم ارتباطهم الشديد بالمدينة كونها آخر عاصمة لدولة الخلافة الإسلامية، بينما تشهد هذه الاحتفالات حضورا مكثفا من جانب العلمانيين والكماليين واليساريين الذين يقيمونها ويشرفون على فعالياتها كل عام.

مخاوف يونانية

وبسبب لوزان تحديدا، ومع كل مناسبة تأتي على ذكرها، تزداد مخاوف المسؤولين اليونانيين، وترتفع حدة القلق والتوتر لديهم، مخاوف مصحوبة دوما بتصريحات عنيفة، وتحركات عسكرية متلاحقة اتسمت هذا العام بالتخبط الشديد، حتى وصل الأمر إلى مخالفة القانون الدولي صراحة وعلنا، تحت ضغط الشعور بوجود تهديد حقيقي وخطر محدق قد يؤثر بصورة مباشرة على مستقبل بلادهم وجغرافيتها التي استمدت تمددها وقوة نفوذها من بنود لوزان، هذه المعاهدة، التي ستتم عامها المائة في يوليو 2023.

مبعث القلق الذي ينتاب اليونانيون كلما اقترب هذا التاريخ هو المطالب الدائمة والمستمرة للمسؤولين الأتراك في كل مناسبة بضرورة تغيير العديد من بنود الاتفاقية، التي يرون أنها استنفدت أغراضها، وأن الوقت قد حان لعقد اتفاقية جديدة، يتم بموجبها إحداث تغييرات على الكثير من المواد والبنود التي تتضمنها لوزان بما يتواءم والأوضاع السياسية الحالية، والتطورات التي شهدها العالم على مدار المائة عام الأخيرة.

تسليح الجزر تهديد مباشر لأمن تركيا القومي

ومن أهم التغييرات التي تريد تركيا القيام بها، إعادة النظر في وضعية الكثير من الجزر المتناثرة بالقرب من شواطئها ومياهها الإقليمية، وهي مجموعة الجزر التي تبسط اليونان سيطرتها وتفرض سيادتها عليها بموجب اتفاقية لوزان، وهي نفس الجزر التي يتمحور حولها الخلاف الآن بعد أن قامت اليونان بتحويلها إلى مخازن لمختلف أنواع الأسلحة القتالية، مخالفة بذلك وضعيتها التي أقرتها الاتفاقية والخاصة ببقائها جزر منزوعة السلاح، حتى لا تمثل تهديدا للدولة التركية.

إقدام أثينا على تسليح معظم الجزر الـ 23 الموجودة في بحر إيجه لم يأت وليد اليوم، فقد دآب الساسة اليونانيون على تسليح العديد من الجزر خصوصا جزر ليمنوس – ساموتريس، وخيوس، وكوس، وساموس منذ عام 1960 على اعتبار أن معاهدة مونترو الموقعة سنة 1936 تعطيها الحق في هذا، رغم مخالفة هذا لبنود كل من اتفاقيتي لوزان 1923، وباريس الموقعة عام 1947، وهي التصرفات التي طالما اعترضت عليها تركيا، ونبهت إلى خرقها للقانون الدولي، وإلى كون مصدر تهديد مباشر لأمنها القومي.

تحويل الجزر إلى ثكنات عسكرية متخمة بقوات مدججة بأسلحة أمريكية

ومع اقتراب مرور مائة عام على توقيع معاهدة لوزان، تتصاعد حدة المخاوف اليونانية من المطالب التركية بضرورة استعادة العديد من الجزر الواقعة في نطاق مياهها الإقليمية، لذا تسعى بكل قوتها إلى تحويل الجزر المتنازع عليها إلى ثكنات عسكرية تحوي مطارات عسكرية، متخمة بالقوات ومختلف أنواع الأسلحة في إطار فرض أمر واقع  حال فكرت تركيا في التحرك فعليا لاسترداد ما تراه أرضا تركية تم التنازل عنها في ظروف استثنائية ووضع حرج، وحان وقت استردادها وإعادتها إلى الوطن الأم، ومحاولة لجس نبض القيادة السياسية التركية تجاه التحركات الأخيرة التي جاءت بدعم مطلق من الولايات المتحدة الأمريكية، حيث قامت واشنطن بتقديم دفعات كبيرة من الأسلحة الأمريكية الصنع إلى اليونان، من بينها 70 طائرة هليكوبتر عسكرية صغيرة الحجم و1200 ناقلة جنود مدرعة، قامت الأخيرة بنشرها في عدد من الجزر المتنازع عليها مع تركيا.

عملية تحويل الجزر إلى ثكنات عسكرية رصدتها المسيرات التركية، حيث تم تحديد جميع أنواع المدرعات التي قدمتها واشنطن لاثينا خلال الفترة الأخيرة، والأماكن التي تمركزت فيها، الأمر الذي دعا الرئيس اردوغان إلى التصريح بأن المدرعات الأمريكية أصبحت تستخدم لتهديد بلاده، مطالبا بضرورة نزع الأسلحة عن الجزر ذات الطبيعة غير العسكرية وفقا للاتفاقيات الدولية، ومحذرا في الوقت ذاته من ضرورة ألا تدفع الولايات المتحدة اليونان للانخراط في حسابات خاطئة غير مأمونة العواقب، فيما أعلن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار أن هناك أوامر صريحة وجهت للقوات البحرية والجوية بخصوص قضية الجزر موضحا أن بلاده لن تتراجع أبدا عن المضي قدما في هذه القضية.

الدعم الأمريكي لليونان شجعها على الاستيلاء على جزر مجهولة الملكية في بحر إيجة وتسليحها

ورغم أن الكثير من الموضوعات شكلت على مر التاريخ عاملا للتوتر بين أنقرة وأثينا، مثل مسائل ترسيم الحدود البحرية، والجرف القاري، والمياة الإقليمية والدولية، والمجال الجوي لكل منهما، وانتهاكات حقوق الأقلية التركية في تراقيا الغربية، إلا أن التصعيد في قضية تسليح الجزر، والدعم الأمريكي المطلق للجانب اليوناني فيها أمرا لا يمكن لأنقرة تجاهله أو الصمت عليه، خصوصا وأن واشنطن تنتهج سياسة ستؤدي حتما إلى زيادة حدة التوتر في المنطقة، وذلك من خلال دعمها السياسي للتصرفات اليونانية الخاصة بتسليح الجزر المتنازع عليها مع تركيا، الأمر الذي شجع اليونان على القيام بالاستيلاء على عدد من الجزر مجهولة الملكية في بحر إيجه وتسليحها هي الأخرى، إلى جانب إعلان الرئيس جو بايدن بأحقية جنوب قبرص في التسلح، خارقا بذلك قرار حظر تسليح الجزيرة الصادر عن الأمم المتحدة عام 1974.

الأمر الذ دفع تركيا في المقابل إلى الإعلان عن زيادة عدد قواتها الموجودة في شمال قبرص التركية، والدفع بأربعين ألف جندي للتمركز هناك، وهي التحركات التي تزيد من حدة التوتر في شرق المتوسط الملتهب.

تركيا وسياسة ضبط النفس إلى متى!

التصرفات اليونانية المستفزة لا تزال تقابلها سياسة ضبط النفس التي تنتهجها الدبلوماسية التركية، حيث قررت أنقرة نقل مشكلة الجزر إلى المحاكم الدولية كخطوة أولى في إطار تصديها لمحاولات اليونان الحثيثة فرض الأمر الواقع عليها، ووقف هذه الممارسات عبر إنفاذ القانون الدولي،  إلا أنه من الصعوبة بمكان ضمان استمرار هذا النهج التركي طويلا إذا ما أصرت اليونان على التعنت والاحتماء بعضويتها في الاتحاد الأوربي، وشراكتها  العسكرية واللوجستية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما نبه إليه الرئيس اردوغان حينما صرح بان ” بلاده مستعدة لفعل كل ما هو ضروري عندما يحين الوقت، وأن على اليونان أن تعلم جيدا أن دعم الولايات المتحدة وأوربا لها لن ينقذها”.

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر