عندما يجتمع النفي والمشيب.. فما أشد سواد الظلم!

وفازت تركيا باستقبال الأحرار

إن النفي من الوطن ظلم عظيم، ‏فما بالك عندما يجتمع هذا النفي مع المشيب.. ‏فلقد استخدم المستبدون وقوى الاستعمار ‏تلك العقوبة لقهر الأحرار الذين يعملون لتحرير أوطانهم وشعوبهم من الظلم.

‏والنفي هو إبعاد قسري للإنسان من أرضه ووطنه، ‏وحرمانه من أهله وصحبه ‏وداره وممتلكاته.. ‏فيذوق المنفي الفقر بعد الغنى، وكثيرًا ما يكون المنفي صاحب جاه ومكانة في قومه، ‏ويتمتع بحب الناس واحترامهم، ‏ويتطلع له شعبه ليقوده لتحقيق الحرية والاستقلال والتقدم.

‏الإجبار على الهجرة!!

‏وتلجأ السلطة المستبدة إلى إجبار الشخصيات التي يمكن أن تقود الشعب على الهجرة إلى الخارج باستخدام التهديد بعقوبات أشد كالسجن ‏أو الإعدام، ‏فيصبح أمام الإنسان خيار وحيد هو الهجرة للحفاظ على حياته، ‏وهو حق مقدس فالحياة هبة ونعمة من الله وحده لا يجوز للإنسان أن يفرط فيها، ‏أو يضحي بها إلا من أجل مبدأ أسمى ‏وأعلى مثل الدفاع عن الدين أو الحرية، ‏ومواجهة السلطان الجائر أو مغتصب الأرض أو العرض.

‏لذلك فإن محافظة الإنسان على حياته مسؤولية والتزام أخلاقي وديني ووطني.. ‏فإذا كان الخيار بين الهجرة والسجن أو الموت ‏فإن الإنسان يجب أن يحافظ على حياته ويختار الهجرة من الوطن أملًا في العودة إليه، ‏ومن مهاجره أو منفاه ‏يمكن أن يقود شعبه إلى الحرية، ‏وإسقاط الطواغيت.

‏التهجير الجماعي!!

‏وقد استخدم الطغاة ‏الذين احتلوا الأندلس عقوبة النفي والتهجير القسري ضد المسلمين، ‏فخيروهم بين اعتناق المسيحية والموت أو الهجرة بشرط أن لا يحملوا معهم نقودا أو ذهبا أو مجوهرات، فهاجر كثير منهم إلى شمال أفريقيا، ‏وهو ما شكّل ظاهرة الموريسكيين ‏ (الأندلسيين) الذين يتعرضون حتى الآن إلى الظلم والمنع من العودة إلى الوطن.

‏ومن الواضح أن السلطات المستبدة قد قلدت الطغاة المسيحيين في الأندلس الذين انتقموا من المسلمين، فأرغموا ‏الكثير من الذين رفضوا الظلم وصمموا ‏على الكفاح من أجل الحرية على ترك الأوطان، والهجرة في بلاد الله الواسعة دون أن يأخذوا معهم أموالهم التي يمكن أن تحفظ كرامتهم. ويتجلى في ذلك أكثر أساليب الطغاة غشمًا وظلمًا وقهرًا!!

جريمة ضد الإنسانية!!

والنفي أو ‏إجبار الإنسان -تحت التهديد بالسجن أو الإعدام- على ترك وطنه، ‏والهجرة منه جريمة ضد الإنسانية ترتبط بالاحتلال والاستعمار والاستبداد والطغيان.

‏ولقد شهد هذا العصر عملية تهجير قسري واسعة للكثير من الأحرار الذين يكافحون من أجل الحرية والتحرير، ‏وتزايدت تلك الظاهرة في الدول العربية.

‏في مؤتمر في لندن عام 1997 قابلت عددا من الشباب التونسيين الذين أجبرهم الطاغية على الهجرة إلى أوربا بعد أن قطعوا مئات الأميال في الصحراء على أقدامهم حتى وصلوا إلى مصر، ‏ثم تمكنوا من الوصول إلى أوربا، ‏وكانوا شبابا يتميزون بالعلم ‏والكفاءة والثقافة، وحصل ‏الكثير منهم على درجات الماجستير والدكتوراه.

‏ولم أستطع التحكم في دموعي وأنا أستمع إلى قصة أحد هؤلاء الشباب، ‏بعد أن قضى ‏ليالي في الصحراء هو وزوجته، ولم أكن أعرف أنني سأتعرض يومًا مثلهم للهجرة القسرية ‏أو النفي الاختياري بديلا للسجن وأنا في شيخوختي.

‏لكن الأخطر من جريمة الطغاة في تهجيرهم، ‏وإجبارهم على قبول النفي من الوطن أن هناك من يتلاعبون بالمشاعر الإنسانية لهؤلاء المنفيين، ‏فيعدونهم ويمنونهم ‏بالعودة طبقًا ‏لشروط قاسية لا تنطبق على أكثرهم.

أما من تنطبق عليه الشروط فإن عليه أن يصمت، فيغترب ‏داخل الوطن، ‏فلا يعبر عن أشواقه إلى الحرية والعدل، ‏وعليه أن يقبل الظلم، بل ربما يتم إجباره على التصفيق له، ‏والتخلي عن تاريخه في مقاومة الظلم، ‏والكفاح من أجل الحرية!!

‏والعالم يصمت.. لماذا؟!!

‏ولقد صمت العالم بكل منظماته ‏التي تدعي الدفاع عن الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، ‏فلم تصدر أيّ منظمة بيانا يدافع عن حقوق المظلومين ‏الذين لا يستطيعون العودة إلى بلادهم، بعد أن هُجّروا منها قسريًّا عقابًا لهم على كفاحهم من أجل الحرية، ‏ودفاعهم عن حق شعوبهم في الديمقراطية والحياة.

‏وهذا يشكل عارًا على أمريكا ودول أوربا والأمم المتحدة وكل منظماتها، ‏فالذي يريد أن يبني مجده، ‏ويفوز بشرف الدفاع عن حقوق الإنسان يجب أن يحترم حقوق الجميع، ‏ويتخلى عن المعايير المزدوجة.

‏من حق الجميع أن يعيشوا على أرضهم، ‏فلا يرغمهم ‏أحد على تركها أو الهجرة منها، ‏ويجب أن تدافع منظمة الأمم المتحدة عن حقوق الجميع إذا كانت تريد أن تحافظ على صورتها بوصفها منظمة عالمية.

‏عندما يضيع العمر!!

‏الكثير من الأحرار ضاعت أعمارهم وهم يتطلعون إلى العودة إلى أوطانهم، ‏والحياة على أرضهم.

‏وفي الوقت نفسه تم حرمان الدول من ثروة بشرية عظيمة، فمعظم الذين تم إجبارهم على الهجرة هم من الكفاءات العلمية والمهنية، ‏وهم قيادات سياسية تحمل رؤى ومشروعات حضارية يمكن أن تساهم في بناء مستقبل دولهم، ‏وتحقيق استقلالها وتقدمها.

‏وهذا يعني أن النفي أو الإبعاد عن الوطن ساهم في إضعاف الدول، ‏وضياع آمال الشعوب في الحرية والديمقراطية، ‏وجفف ‏ينابيع السياسة، ‏وأشاع حالة من الخوف والرعب في نفوس الناس ‏فإن كانت أعمار المهاجرين قد ضاعت في المنافي، ‏فإن سنوات من أعمار الشعوب قد ضاعت عندما فقدت قياداتها وعلماءها.

‏عار على الدولة!!

‏والدولة التي تجبر علماءها على الهجرة، ‏والحياة في المنافي ‏تحت التهديد بالاعتقال والتعذيب تفقد إمكانيات تحقيق الديمقراطية وبناء المستقبل.

‏ولأن كل دولة تفخر بعلمائها، ‏فإن الدولة التي تنفي العلماء وتسجنهم ترتكب جريمة في حق أجيالها القادمة.

كما ‏أن هؤلاء الذين تم طردهم هم الأكثر حبًّا للوطن، وكفاحًا ‏لتحقيق نهضته، ‏وبناء قوته. ‏ومعظمهم رجال دولة عملوا ‏للحفاظ على مؤسسات دولتهم والدفاع عنها، ‏وبناء قوة الدولة في كل المجالات.

‏لذلك ألحقت النظم الاستبدادية بدولها عارًا عندما اضطهدت ‏الأحرار وأجبرتهم على الرحيل، ‏فأكثر ما يشوه صورة الدولة قهر الإنسان واضطهاد ‏الأحرار وقادة الكفاح الوطني.

‏الوطنية الحقيقية

‏هناك الكثير ممن غنوا للوطن، ‏لينهبوا خيراته وثرواته، وليبيعوا ‏للدول الأجنبية موارده، ‏وهم يحلبون الوطن، ‏ولم يدافعوا يومًا ‏عن حقه في الاستقلال والحرية، وهم يستغلون المؤسسات السياسية، ‏ويعيثون في الأرض فسادًا، ‏ويقهرون أبناء الوطن وينشرون الخوف والرعب بحجة المحافظة على هيبة الدولة.

‏وفي المنافي يعيش الوطنيون المخلصون الأحرار الذين لم تمتد يومًا أيديهم إلى مال حرام، وكل جريمتهم أنهم أخلصوا في حب وطنهم ودافعوا عن حريته، ‏وعن حق شعبه في الحياة والكرامة والعدالة الاجتماعية والاستقلال الشامل والديمقراطية.

‏النظم الاستبدادية تكره الأحرار

‏ولقد اتضح لكل ذي بصيرة خلال السنوات الماضية أن النظم المستبدة تستخدم قوتها الغاشمة لتمنع الشعوب من الكفاح لانتزاع حريتها. فهذه النظم تكره الأحرار، وتمقت ‏الذين يكافحون من أجل الحرية.

‏فهي تريد أن تحكم شعوبا خائفة ضعيفة ترضى بالفتات، ولا تفكر في تحقيق أهداف عظيمة.

لذلك سجنت عشرات الآلاف من الأحرار حتى ضاقت بهم السجون التي بنتها وأنفقت عليها المليارات، ‏وأجبرت الكثير منهم على الرحيل إلى المنافي.

‏دول بلا مستقبل

‏والدول التي تسجن علماءها وتقهرهم وتطردهم هي دول بلا مستقبل، ‏فلا يمكن أن تتفرغ دولة لقهر أحرارها، ‏ثم تتقدم أو تعمر أرضًا ‏أو تبني حضارة.

‏وفي المنافي يتعذب الأحرار بحنينهم إلى الوطن، ‏ويعيشون ظروفًا قاسية، ‏ويموت أحبابهم فلا يتمكنون من ودعاهم، أو الوقوف على قبورهم وتلقي العزاء فيهم.

‏وكل حر في المنفى له قصة كفاح من أجل المحافظة على حياته حتى يعود، وبالرغم ‏من مرور السنين فهو لا يفقد الأمل في العودة.

‏ويمكن أن يتخذ بعضهم قرارًا ‏بالعودة نتيجة الظروف القاسية والشوق إلى الوطن، فيجدون الجلاد ينتظرهم على باب الطائرة، ليكمل حياته في السجن يئنّ على وقع السياط التي تقهر الأرواح.

‏عالم بلا إنسانية!!

‏مأساة الأحرار المنفيين ‏توضح أن النظم المستبدة فقدت الإنسانية والضمير، فابتكرت ‏وسائل جديدة لإلحاق ‏الأذى والضرر بالمنفيين ‏وقهرهم ‏مثل اعتقال الآباء أو الأبناء أو الأقارب، ‏أو الفصل من الوظائف.

‏والعالم كله فقد الإنسانية، ‏ولم يعد من حق أحد أن يدعي الحضارة، ‏وهو يصمت على مأساة أشخاص كافحوا من أجل حرية شعوبهم وأوطانهم، ‏وعملوا لتحقيق الديمقراطية، ‏أو فازوا ‏في انتخابات حرة، واختارتهم شعوبهم ليعبروا عن آمالها.

‏إن اضطهاد ‏الذين يكافحون من أجل الحرية، ونفيهم ‏أو تهجيرهم قسريًّا ‏هو جريمة ضد الحضارة، والذي يصمت على ذلك ليس من حقه أن يدعي أنه متحضر حتى وإن بنى ناطحات سحاب، وأنتج ‏الطائرات، ووصل إلى القمر، أو التقط صورًا للفضاء.

‏دول تفوز بالشرف

‏وهناك دول فازت بشرف استقبال الأحرار المنفيين ‏وحمايتهم مثل تركيا. ‏وهؤلاء الأحرار المنفيون ‏سوف يعودون يومًا إلى أوطانهم، ‏ويساهمون في بناء صورة إيجابية لتركيا التي عاشوا فيها سنوات عندما ضاقت بهم الأرض، ‏فوجدوا فيها الأمن.

‏والله سبحانه وتعالى ينعم على من يحمي المظلومين ‏الذين حملوا راية الدفاع عن العدل والحرية. ‏وستظل عيون الأحرار وقلوبهم تتجه نحو الوطن ‏وتحلم بالعودة، ‏وتكتب شعرًا ونثرًا ‏يعبران عن أشواقهم إلى الحياة سادةً على أرض وطنهم.

المصدر : الجزيرة مباشر