في ذكرى المولد النبوي الشريف

لا تخلو كلمة أي زعيم دولة عربية في احتفالات ذكرى المولد النبوي الشريف من عبارة “ما أحوجنا إلى أن نقتدي بأخلاق الرسول العظيم” أو “ونحن بهذه المناسبة نتأسى بخطى الرسول الأمين” أو “ونحن نسير على نهج النبي الكريم” أو “علينا ترجمة أخلاق النبي إلى سلوك وواقع وملموس”، وغير ذلك من الجُمل المعلّبة المحفوظة، التي تبدو كأنها صُنعت أو اختُرعت للكتابة والقراءة، لكنها لم تكن للتنفيذ أو التطبيق العملي قط، ومن ثم يبدو أن الذكرى تحلّ لتكشف سوءاتنا، لا أكثر من ذلك ولا أقل.

حوار في السجن

أذكر حوارًا دار في السجن من خلف القضبان بين طرفي زنزانتين، سأل أحدهما الآخر: ماذا لو عاد النبي “صلى الله عليه وسلم” إلى الدنيا، فوجد أتباعه في السجون لمجرد أنهم عارضوا الحاكم أو قالوا كلمة حق في وجه سلطان جائر، وماذا لو شاهد النبي كل هذا الفقر، في الوقت الذي يعيش فيه الحُكام حياة رفاهية مطلقة، وماذا لو رأى النبي المسجد الأقصى مدنسًا دون محاولات لتطهيره، والقدس محتلة دون أدنى مساع لتحريرها، وغير ذلك من الأسئلة التي سوف تطرح نفسها فورًا على أي وافد إلى الحياة الدنيا.

العبارات التي يرددها القادة من خلال كلماتهم في هذه الذكرى العظيمة، تأتي لتذكرنا بالآية الكريمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}، هي إذن بمثابة تذكير للرعية بأن الراعي ليس صادقًا، هي بمثابة استهلاك محلي أو زمني للاحتفالية، دون أدنى احترام لعقلية الحضور أو حتى المستمعين ومن ثم المواطنين، هي دليل يضاف إلى كثير من الأدلة التي تؤكد أن الشعوب تعيش حالة من الغش والخداع، يتم من خلالها استخدام المناسبات الدينية للتغييب والتضليل، مثل المناسبات الوطنية تمامًا.

ما نسمعه من القادة في الاحتفالات بالذكرى لا يتطابق أبدًا مع الواقع.

وجود الآلاف أو عشرات الآلاف من المظلومين في السجون والمعتقلات، بهذه الدولة أو تلك، هو عمل لا ينتمي للرسول الكريم ولا لرسالته بأي شكل من الأشكال، الظلم والبطش وإفقار الناس وقتلهم وسرقة ممتلكاتهم لا علاقة له بالرسول ولا بالإسلام، بل لا علاقة له بالديانات والشرائع بشكل عام، السفه في الإنفاق على ما لا يفيد مع تجاهل أعداد المشردين والمتسولين والمرضى والمنتحرين والمدمنين والفقراء، هو أمر في حد ذاته يوجب الاستنفار، ومن ثم تغيير المنكر بكل الوسائل.

لسنا في حاجة إلى الاستدلال بسيرة الرسول ونصوص الآيات القرآنية في مجالات العدل والإنصاف، ولا بسيرة الخلفاء الراشدين من بعده، ولا بكثير من الوقائع التي سردها لنا السابقون، واكتظت بها كتب السيرة والتاريخ، والتي تحدثنا عن عدل الخليفة عمر بن عبد العزيز، أو هارون الرشيد، أو الخليفة المعتصم، مرورًا بخلفاء الدولة العثمانية، حتى العدل في ساحات القضاء، وتراث مجالس العلماء من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، لسنا في حاجة إلى التأكيد على أن ما نسمعه ونشاهده الآن لا يمت من قريب أو بعيد إلى السيرة النبوية التي يتمسح بها البعض في المناسبات.

فرصة لإعادة النظر

أعتقد أن المناسبات الدينية، ومن بينها ذكرى مولد نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، هي فرصة لإعادة النظر بكثير من الرحمة في سياسات الظلم والقهر، إعادة النظر في هذه الأعداد الكبيرة من المعتقلين الذين يعانون خلف القضبان في هذه الدولة أو تلك، إعادة النظر إلى أسرهم الذين يعانون على مدار الساعة في غياب العائل، أو الزوج والزوجة، أو الأب والأم، أو الابن والابنة، إعادة النظر في سياسات الإفقار، وسفه الإنفاق في الوقت نفسه، إعادة النظر في كل ما أدى إلى تخلف هذه المجتمعات وتراجعها بهذا الشكل المزري.

الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن ترويع الآخر ولو من قبيل المزاح.

بالتأكيد لو أن الرسول عليه الصلاة والسلام، عاد إلى حياتنا الدنيا هذه، لأعلن الجهاد على الطغاة والظالمين والسفهاء والخونة، وعلى المنافقين في كل الأنحاء. لن يكون هناك مكان للطغاة، ولا لأعوان الطغاة، لن يكون هناك مكان للمنافقين والمدلسين الذين يحسبون أنهم يُحسنون صُنعًا، لن يكون هناك مكان للفاسدين والمفسدين، بل لن يكون هناك مكان لمشايخ السلطة، الذين يطوعون الفتاوى لخدمة هذا الحاكم أو ذاك، ومن ثم فلن نستمع إلى هؤلاء القادة الذين يقولون ما لا يفعلون، الذين يرددون كالببغاوات أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بألسنتهم، ويخالفونها بأفعالهم، دون حياء في الدنيا ودون اعتبار للآخرة.

الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن ترويع الآخر ولو من قبيل المزاح، فما بالنا بحياة الترويع التي اعتادتها الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج قهرًا وظلمًا، بالحديد تارة والنار تارة أخرى، أو هما معًا، حتى أصبح سفك الدماء وإزهاق الأرواح والتلويح بهما طوال الوقت، من أهم عوامل الاستمرار في السلطة أو استقرار الأنظمة من وجهة نظر القائمين عليها، دون أدنى قراءة للتاريخ، ودون أدنى اعتبار لنهايات كل جبابرة العالم قديمًا وحديثًا، من عرب وعجم في آن واحد.

الاقتداء بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أيها السادة، لا يكون بالعبارات الرنانة، التي يعقبها تصفيق حاد من حملة القرآن الكريم، ولا يكون بأشعار تعتمد على الوزن والقافية، كهدف لنيل الإعجاب وهز العمائم والرؤوس، ولا يكون حتى بإقامة السرادقات وتعليق الزينات.. الاقتداء بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يبدأ بنبذ الظلم، ونشر العدل، والإفراج عن المعتقلين، ولمّ شمل الأسر والمهجرين واللاجئين.

هي بالتأكيد أمور بديهية كان من المهم أن يسمعها الحكام من علماء الدين، دون غيرهم، في مثل هذه المناسبة العظيمة، إلا أن الخوف والرعب قد تمكنا حتى من العلماء، وهو ما يجعل أي حديث عن احتفالات من أي نوع، وأي كلمات وأشعار وأزجال، تحصيل حاصل، يجب أن لا ينال أي اهتمام من قِبل الشعوب المغلوبة على أمرها، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

المصدر : الجزيرة مباشر