انتصار الإرادة المصرية -أكتوبر 1973

في العيد التاسع والأربعين لذكرى النصر (أكتوبر/ تشرين الأول ١٩٧٣) تهنئة للشعب المصري العظيم، البطل الحقيقي للنصر الذي رفع شعار “لا صوت يعلو فوق المعركة”، وضحى بالغالي والنفيس من أجل توفير ثمن شراء دبابة أو مدفع أو غيرهما من وسائل الاستعداد لمعركة النصر.

تهنئة للقوات المسلحة المصرية الباسلة، الدرع الواقي لمصر والعرب.

تحية لشهداء مصر خلال الحروب الخمس التي خاضتها البلاد ضد إسرائيل من أجل قضية العرب، نعم الحروب الخمس (١٩٤٨ – ١٩٥٦ – ١٩٦٧ – حرب الاستنزاف – أكتوبر ١٩٧٣) وحربها الحالية للقضاء على الإرهاب.

حكايتي مع نصر أكتوبر بدأت من الإحباط والهزيمة والانكسار في ٥ يونيو/ حزيران ٦٧ إلى ٢١ مارس/ آذار ١٩٧٤ مرورًا بالعبور العظيم والنصر في معركة الإبهار أكتوبر ٧٣. هزيمة يونيو ٦٧ غير مستحقة، فبعد تدمير القوات الجوية المصرية على الأرض أصبحت المعركة غير متكافئة.

نصر أكتوبر بدأ في ٩ يونيو ١٩٦٧ عندما رفض الشعب الهزيمة وتنحِّي جمال عبد الناصر. كان هدف إسرائيل بعد وصولها إلى شرق القناة هو إزاحة القيادة المصرية والاستسلام بلا شروط، ولكن رفض الشعب والوقوف خلف القيادة والإصرار على تحرير كل الأرض انتصار للإرادة المصرية.

الاستعداد لمعركة استعادة الكرامة والأرض اشترك فيه جميع الشعب المصري الذي رفع شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وترجمت ذلك بالتضحية بالغالي والنفيس من أجل هذا الهدف قواته المسلحة وقيادتها التي استوعبت دروس النكسة.

كانت المهام الرئيسية للقيادة هي إزالة حالة الإحباط التي خلفتها النكسة ورفع الروح المعنوية للقوات المسلحة من خلال التدريب الشاق على مهام المعركة والتخطيط الجيد، وقد استطاع الجيش المصري بعد فترة قصيرة جدًّا أن يعيد ترتيب تنظيم قواته المسلحة في أوضاع دفاعية على الجبهة.

هنا بدأت مرحلة الصمود من يونيو ١٩٦٧ إلى سبتمبر/ أيلول ١٩٦٨، أما مرحلة الدفاع النشط فكانت من سبتمبر ١٩٦٨ إلى أغسطس/ آب ١٩٧٠ عندما قبلت مصر مبادرة وزير الخارجية الأمريكي روجزر التي كانت تتضمن وقف إطلاق النار، وثمثلت أهداف حرب الاستنزاف في رفع الروح المعنوية للشعب والقوات ورفع الكفاءة القتالية لعناصر القوات المسلحة ودراسة العدو دراسة جيدة وحل طلاسم عملية العبور المنتظر للمانع المائي وتدمير خط بارليف، وبصفة عامة الاستعداد الجيد لمهام معركة استعادة الكرامة والأرض. وكان الشغل الشاغل للجميع قيادة وجنودا هو هذه المعركة التي لم نكن نعرف موعدها بالضبط ولكن كنا على اقتناع بأنها قادمة لا محالة.

تكلفته باهظة

حرب الاستنزاف أكدت للعدو الإسرائيلي أن بقاءه في سيناء تكلفته باهظة جدًّا، خلال هذه المرحلة لم يكن هدفنا تحقيق انتصارات مدوية بل استمرار الصدام مع العدو. وتم الانتهاء من إنشاء حائط الصواريخ خلال حرب الاستنزاف، ونجح أول اختبار مع الطيران الإسرائيلي في ٣٠ يونيو ١٩٧٠.

نحمد الله على أن غولدا مائير رفضت مبادرة روجز لأنها لو قبلتها لكنا استعدنا الأرض وبقيت كرامتنا في الأرض.

رحلتي مع معركة النصر بدأت وأنا طالب في الكلية الحربية في ٥ يونيو ١٩٦٧ واستمرت إلى ٢١ مارس ١٩٧٤، نعم مارس ١٩٧٤.

وكانت على مرحلتين؛ المرحلة الأولى من التخرج من الكلية الحربية في ديسمبر/ كانون الأول ١٩٦٧ إلى يونيو ١٩٧٣ من خلال وجودي في كتيبة استطلاع الفرقة الرابعة المدرعة على الجبهة والاشتراك في حرب الاستنزاف ومهام الاستطلاع خلف خطوط العدو.

كان هناك هدف محدد لمجموعات استطلاع خلف خطوط العدو وهو عبور قناة السويس واجتياز خط بارليف والحصول على كافة المعلومات المتاحة والممكنة عن خط بارليف (حقول الألغام – الساتر الترابي – النقاط القوية..) وتوفير كافة المعلومات التي تخدم عملية العبور المنتظرة من خلال الدراسة الجيدة للعدو وتحصيناته.

أما المرحلة الثانية من رحلتي مع نصر أكتوبر فكانت بعد انتقالي إلى كتيبة سطع رئاسة عامة في القاهرة، وتكليفي يوم ٦ أكتوبر 1973 بمهمة استطلاع قوات العدو في عمق سيناء على مسافة ١٠٠ كلم من القناة.

في عمق العدو وسط سيناء في منطقة المليز بئر الجفجافة، كنت مكلفا بمهمة الحصول على المعلومات عن نشاط العدو الإسرائيلي وتحركاته من الجبهة، وكذلك نشاط القاعدة الجوية بالمليز ومركز القيادة في أم مرجم، كانت مهمة المجموعة لفترة ٩ أيام حيث كان التخطيط أن تقوم قواتنا بتنفيذ المهمة المباشرة وهي عبور القناة وتدمير خط بارليف وإقامة رؤوس كباري بعمق من ١٠-١٢ كلم بعد ذلك وخلال ٩ أيام يتم تطوير الهجوم لتصل القوات إلى خط المضايق ( الجدي – متلا – رأس سدر) وهنا تنضم المجموعة إلى قواتنا وبذلك تكون مهمتها انتهت في انتظار التكليف بهمة أخرى، ولكن لسوء الحظ عملية تطوير الهجوم لم تتم ولم تصل قواتنا إلى خط المضايق وبالتالي لم تنضم المجموعة واستمرت المجموعة بناءً على الأوامر والتكليفات في العمل لمدة ستة أشهر كاملة تقوم بإمداد القيادة بالمعلومات في تقرير يومي عن نشاط العدو والتحركات من الجبهة وإليها ونشاط قاعدة المليز الجوية حتى صدرت الأوامر بالعودة في مارس ٧٤.

ما حدث خلال الأشهر الستة هذه حكاية أخرى

خلال هذه الأشهر الستة من العمل خلف خطوط العدو ووسط قواته كنّا نعد عليه همساته ونرصد كل تحركاته (من ٦ أكتوبر ١٩٧٣ حتى ٢١ مارس ١٩٧٤)، ونرصد كذلك الدعم الأمريكي المباشر، حيث تم رصد شواهد هذا الدعم الذي وصل إلى ٥٢٠ طالعة بمعدل ٢٣ طالعة يوميًّا لمدة ٢٣ يوما، وكان ذلك خلال الأيام الأولى للمعركة (قوات وأفراد وطائرات ومعدات) بعد انهيار القوات الإسرائيلية وعبور القوات المصرية وتدمير خط برليف في ست ساعات.

إن ما حدث في أكتوبر ١٩٧٣ هو إنجاز وإعجاز لا يقوى عليه إلا الجندي المصري.

لك أن تتخيل أن العبور تم بواسطة خمس فرق وعلى مواجهة ١٦٠ كلم بطول القناة، ووصل عدد المقاتلين المصريين الذين تمكنوا من العبور حتى الساعة العاشرة من مساء السادس من أكتوبر حوالي ثمانين ألف جندي بمعداتهم وبخسائر أقل من مئة جندي، حقًّا إنه إنجاز وإعجاز. إن ما جاء على ألسنة القادة (مثل غولدا مائير وديان) من أن الجيش المصري لا يجرؤ على عبور القناة أو بدء الحرب، وما جاء على ألسنة الجنود الإسرائيليين بعد الحرب من أن ما حدث كارثة، خير دليل على ذلك الإعجاز.

في هذه الذكرى لا ننسى دور أبناء سيناء الذين تحملوا بطش وإرهاب القوات الإسرائيلية خلال ست سنوات من الاحتلال.

أما مجموعة لطفي التي كنت قائدها فكانت مكونة من ثلاثة، أنا النقيب أسامة من محافظة الدقهلية والعريف فتحي من محافظة الفيوم والشيخ حسب الله من قبيلة الأحيوات وسط سيناء، أنا والعريف فتحي عسكريان والشيخ حسب الله مدني، بمعنى أن المجموعة تمثل نسيج المجتمع المصري.

يجب ألا ننسى الذين رفضوا إغراءات ضابط المخابرات الإسرائيلي في ذلك الوقت الذي خصص مكافأة لمن يقودهم إلى مكان مجموعة لطفي.

أما عن ثغرة الدفرسوار فقد أخذت أكبر من حجمها لأسباب مختلفة، ولكن يمكن القول: صحيح نجحت القوات الإسرائيلية في إحداث جيب داخل القوات المصرية، لكن كان محكوما عليها بالإعدام.

وأقول إن القيادة العامة للقوات المسلحة أتاحت الفرصة لعدد من أعضاء الكونغرس الأمريكي للقيام بزيارة على الطبيعة فأكدوا أن القوات الإسرائيلية في الثغرة هالكة لا محالة.

وهنا عادوا إلى واشنطن وضغطوا وبدأت التحركات التي أدت إلى توقيع اتفاق فك الارتباط فى جنيف في يناير/ كانون الثاني ١٩٧٤، (عن الجانب المصري اللواء عبد الغني الجمسي وعن الجانب الإسرائيلى الجنرال ديفيد بن اليعازر رئيس الأركان).

إسرائيل لا تحترم الضعيف، عند ما استطاع الجيش المصري العبور وتحطيم خط برليف الحصين وتكبيد العدو الإسرائيلي خسائر فادحة تيقن مناحيم بيغن زعيم الليكود قوة مصر وضرورة السلام معها. وقد وصل الليكود إلى الحكم في مايو ١٩٧٧ في الانتخابات العامة التي أطاحت بحزب العمل الذي ظل يحكم منذ قيام دولة إسرائيل وكان يمكن أن يستمر لولا الهزيمة المذلة لإسرائيل في حرب أكتوبر ١٩٧٣، وهنا اختفت شخصيات كنا نعرف إسرائيل من خلالها: موشيه ديان، غولدا مائير وغيرهما.

عندما تولى الليكود الحكم وضع القادة نصب أعينهم ضرورة تحقيق السلام مع مصر بأي ثمن، وبالنظر إلى سير الحوادث نجد أن الليكود وصل إلى الحكم في مايو ١٩٧٧، وجاءت زيارة الرئيس السادات بطل الحرب والسلام للقدس ١٩٧٧، (وقد أكد خلال خطابه بالكنيست أن السلام العادل والشامل والدائم لا يمكن أن يتم مع احتلال أراضي الغير)، ثم توقيع اتفاقية كامب ديفيد في سبتمبر ١٩٧٨، ثم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في مارس ١٩٧٩.

وهنا انتصرت الإرادة المصرية وقامت إسرائيل بتنفيذ ما رفضته قبل حرب أكتوبر وتم تحرير كل الأرض وحتى آخر حبة رمل من سيناء بمنطقة طابا في سبتمبر ١٩٨٨.

قنصل عام في إسرائيل

بعد ١٥ سنة أتيحت لي الفرصة لكي أكون الضابط المصري الوحيد الذي خاض ضد إسرائيل حربين (الاستنزاف – أكتوبر) وانتصر فيهما ونال وسام النجمة العسكرية وخدم بوصفه قنصلا عاما لمصر في إسرائيل وفي فترة خدمتي التي استمرت ١٤٦٦ يوما كانت لي نقاشات عديدة مع بعض العسكريين الذين شاركوا في حرب أكتوبر وكذلك السياسيين حول كيفية تحقيق المفاجأة في حرب أكتوبر وقيام الجيش المصري بشن الحرب، حيث إن المنطق والحسابات العلمية وقوانين القتال لم تكن ترجح قيام الجيش المصري بشن الحرب (تهيئة المجتمع الدولي – مسرح العمليات – مقارنة القوات بين الجانبين – ضرورة تأمين احتياطي في الأسلحة والمعدات – توافر شريك إستراتيجي يعتمد عليه) مرة ثانية كل هذه العوامل لم تكن في صالح قيام الجيش المصري بشن الحرب. كانت إجابتي بأن كل هذه الحسابات سليمة ولكن هناك عامل غاب عن تقديراتكم وهو طبيعة الجندي المصري والمقاتل المصري واستعداده للتضحية وإيمانه بمهمة تحرير الأرض، المهم أننا حققنا المفاجأة وعبرنا القناة في عز الظهر وحققنا النصر بوسائل كلها إبداع.

المصدر : الجزيرة مباشر