عصيّة على التخطيط.. الخرطوم تحت تهديد الانفجار السكاني والتشوهات البصرية

 

في كتاب “ذكريات شتاء عن مشاعر صيف والعذبة”، كره الكاتب الروسي الشهير دوستويفسكي لندن عندما زارها أول مرة، كان النظام البرجوزاي في ذروته، سكك حديدية فوق المنازل وتحتها، نهر التايم المتسمم، الهواء المشبع بالفحم، الميادين والحدائق الرائعة مع الأحياء الكالحة المتجهمة، وقد صوّرها بأنها “بلاد يختنق فيها الإنسان تحت وطأة المال والحساب”، وهو بذلك كأنه ينهي المستعمرات الإنجليزية من أن تتلبسها تلك النزعة الأوربية، وتتخلى عن هويتها العمرانية، كما فعلت الخرطوم، التي هى اليوم “لا قرية تبدو بداوتها ولا بندر”، على حد تعبير الشاعر السوداني توفيق صالح جبريل.

الهجرات والنزوح

تعاني الخرطوم معضلة خطيرة وهى الهجرات المستمرة من الريف بحثًا عن الخدمات وفرص العمل، والنزوح المستمر نتيجة لحروب الأطراف، إلى جانب قوافل اللجوء من دول الجوار الأفريقي التي لم تتوقف أبدًا، وفشل معظم الحكومات الوطنية في التعامل مع مشكلة السكن العشوائي، مما جعلها تحت ضغط هائل، وانفجار سكاني لم تتحوط له بالقدر الكافي، وهى العاصمة المثلثة التي قام الإنجليز بتخطيطها وفقًا لتصواراتهم، أم درمان والخرطوم بحري مدينتان صناعيتان، أما الخرطوم فهى مدينة سكنية بهندسة معمارية خاصة، دون أن يحقق ذلك التوازن المطلوب بين الإرث الحضاري للمدينة، ومشكلاتها الحالية، واحتياجاتها المستقبلية.

في كتابه “التخطيط العمراني واستدامة النمو الحضري”، أثار الدكتور شرف الدين بانقا -أشهر وزير تخطيط عمراني إبان حقبة الإنقاذ- عاصفة من الأسئلة، وكثيرًا من الأفكار التي غابت عني وأنا أتجول في شوارع الخرطوم، التي تبدو اليوم مدينة بلا ملامح، غارقة في الفوضى العمرانية، وغياب التخطيط الحضري المستدام، حيث لا تتوافر خطوط مواصلات متقاربة، ولا حدائق عامة ملائمة وسط الأحياء، أو مواقع خدمية لتلبية احتياجات السكان، مثل الأسواق والمطاعم والمقاهي، ولا يعكس التخطيط رؤى المجتمع وقيمه، مع تدهور النسيج العمراني والمعماري، وتدهور البيئة الحضرية نتيجة للانفجار السكاني والضغط الهائل على الموارد الطبيعية.

الأرض المُشتهاة

لا شك أن السكن هو البيئة، في حدها الأدني المعمار الطبيعي، إذ ينظر شرف الدين بانقا إلى دوافع الإنجليز لتخطيط الخرطوم بشكلها الحالي “كضرورة أمنية”، حيث جعلوا منها سياجًا للحماية، لتفادي ما حدث لغردون باشا عندما هجم عليه أنصار المهدي، لكنها توسعت بعد ذلك، وبدأت تزدحم وتضعف قاعدتها الاقتصادية، واكتظت بالنازحين والمهاجرين، وكانت وظلت المشكلة كيف تعالج مشكلة النازحين واللاجئين. لكن المشكلة الخطيرة التي لم ينتبه إليها الناس، هو تدهور البيئة الصحية، حيث صارت المدينة تحتشد بالذرات الملوثة العالقة، نتيجة لتوقف السيارات المتكرر، وهذا يتسبب في الأمراض بالضرورة، مما يتطلب -بصورة حاسمة- التخطيط للعودة إلى الريف، للحفاظ على المناخ، وتحقيق التوزان بين المُنتج والمستهلك.

الأرض في السودان مُشتهاة، كما قال الدكتور جعفر بخيت، وهي ملكية للدولة، أو تسيطر عليها أقلية تستحوذ على كل شيء، بينما يعاني آلاف الناس في الحصول على السكن، وتتجلى مظاهر التمييز السلبي في تخطيط الأحياء درجة أولى وثانية وثالثة، تفاقم جدلية الصراع الطبقي، مع غياب الخيال والفن في تشييد المباني، ولذلك تشعر بحالة من التشوهات البصرية. وقد أصبحت الخرطوم في السنوات الأخيرة، شبه معروضة للإيجار والبيع بالكامل، تحت غطاء من الفوضى وألاعيب السماسرة، مع وافر الشكوى غير المنقطعة من ندرة المساكن المطروحة بأسعار معقولة، للأجانب والسودانيين معًا، واللافت في الأمر أن الحكومة لا يبدو أنها قلقة من حالة النمو السكاني مع ضعف خدمات الإسكان، أو أنها ساعية لوضع حد لهذه المفارقة، كون الخرطوم تحتل مساحة 22 ألفًا و122 كيلومتر مربع، ومع ذلك تضيق بأهلها، الذين بلغ تعدادهم نحو 7 ملايين نسمة وفقًا لإحصاء العام 2008، بينما تشير تقديرات غير رسمية إلى أن العدد وصل الآن إلى نحو 10 ملايين تقريبًا.

برج القذافي كمَعلم سوداني

الهجرة من الريف إلى المدينة وركود الاقتصاد، وتركز الإنتاج في الخرطوم، جملة أسباب جعلتها غالية، تفتأ أيضًا تغري المزيد من الناس للاستقرار فيها نظرًا لتكدسها بالمصانع والشركات والمؤسسات الحكومية، وقد استأثرت أيضًا بمشاريع الإنتاج، حين تدهورت الصناعة التي ارتبطت بالمشاريع الولائية، وأكثر ما يلفت الأنظار أنها تفتقر إلى بصمة عمرانية خاصة، المباني غير جاذبة ولا تسر الناظرين، حتى أن أكبر مبنى الآن هو برج عقيد ليبيا الراحل معمر القذافي، الموسوم بكونثيا، بشكله البيضاوي، وقد شُيد هذا المبنى في منطقة المقرن، وعلى أنقاض أكبر حديقة حيوانات في أفريقيا، كما لو أن القذافي صنع هذا البرج الشاهق ليظهر كمَعلم ليبي يطغى على النزعة السودانية.
حرص الإنجليز على تخصيص مناطق للسكن، على نمط التخطيط الشبكي، وكانت في ذلك الوقت ذات بيئة عمرانية مأمونة، أي مدينة صغيرة متماسكة وسليمة مع نواة صلبة تشكل منطقة الأعمال المركزية، لكنها اليوم تواجه مخاطر جمة، لدرجة التفكير في نقل العاصمة السودانية إلى ولاية البحر الأحمر، أو نقل المؤسسات الحكومية والثكنات العسكرية إلى مواقع بعيدة، وقد ظهرت هذه الثغرة الأمنية بعد سقوط نظام البشير في العام 2019، والسيولة الأمنية المستمرة التي يتم بسببها إغلاق الجسور والطرق الرئيسية، مما يتسبب في حالة من الاختناق والحصار وتوقف دوران عجلة الحياة تمامًا.

شهدت الخرطوم الكبري معدل نمو سنوي بلغ 6.8% خلال الفترة 1983- 1993، وصحب ذلك مشاكل أمنية وسياسية، مع الحاجة الماسّة إلى توفير شبكة المرافق العامة والمستشفيات والحدائق، والوقف على مدى الخلل في شكل المباني العامة والخاصة، نتيجة لذلك ثمة حاجة إلى عقل معماري يفكر خارج الصندوق، بمعني أن الذي يخطط للخرطوم اليوم عليه أن يخطط لكل السودان، ويضع في رؤيته الهيكلية ضرورة إنشاء المدن الصناعية والمشروعات الزراعية التي تتوافر فيها الخدمات وفرص العمل، بطريقة تحفظ للأجيال السودانية حقوقهم وكرامتهم، وتوقف الهجرات من الريف إلى المدينة.

المصدر : الجزيرة مباشر