شرق أوربا.. 100 عام من التفكيك والتركيب

شهدت القارة الأوربية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أكبر موجات استعمارية في تاريخها، فمع ثورتها الصناعية وتقدمها العلمي والتكنولوجي والعسكري، وسعيًا نحو جمع الثروات والسيطرة على الأسواق، خرجت دولها لتكوين إمبراطوريات استعمارية حول العالم، فهيمنت على مساحات واسعة من قاراته، بل واكتشفت فضاءات ومساحات لم تكن معلومة بشكل كامل، في أميركا الشمالية والوسطى والجنوبية وأستراليا.

ومع تصاعد التنافس الدولي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بين الإمبراطوريات الاستعمارية الأوربية الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، والمتوسطة مثل بلجيكا وهولندا وإسبانيا وإيطاليا، على حساب الإمبراطوريات الشرقية مثل الدولة العثمانية والنمساوية ـ المجرية، دخل العالم في مواجهات وحروب كبرى، ساخنة وباردة، استمرت نحو 100 عام.

ورغم أن التنافس الاستعماري بين القوى الأوربية كان في أغلبه خارج القارة الأوربية، إلا أن الحروب الكبرى التي شهدها العالم المعاصر خلال القرن العشرين كانت مسارحها الأساسية هي الأراضي الأوربية، وارتبط أغلب المواجهات في شرق القارة التي تم توصيفها في كثير من المراحل التاريخية إنها أشبه ببرميل بارود قابل للاشتعال دائمًا متى توافرت أعواد الثقاب.

حرب عالمية أولى وموجة أولى من التفكيك والتركيب

يذهب فريق من المحللين إلى القول إن الحرب العالمية الأولى بدأت في عام 1914، مع اغتيال ولي عهد النمسا، التي أعلنت الحرب على صربيا، ثم دخول العالم في معسكرين أحدهما داعم للنمسا والآخر دام لصربيا، إلا أن تطورات الواقع الفعلي تقول إن البداية الحقيقية للحرب كانت مع مؤتمر برلين 1885 و1886، الذي رسخ للصراع الدولي بين القوى الأوربية على خرائط النفوذ والهيمنة في القارة الأفريقية وداخل القارة الأوربية، وأن سنوات ما بعد المؤتمر كانت بمثابة ترتيب وتجهيز للمواجهة الكبرى عام 1914.

انقسمت أوربا إلى مجموعتين، الأولى تضم بريطانيا وفرنسا وروسيا التي أعلنت وقوفها بجانب صربيا، وكانت تعرف باسم دول الوفاق، والثانية التي تضم ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية والدولة العثمانية، وكانت تعرف بدول الحلف، وفي عام 1915 انضمت إيطاليا إلى المجموعة الأولى، وفي عام 1917 انسحبت روسيا من المجموعة وانضمت إليها الولايات المتحدة الأميركية.

وانتهت الحرب بهزيمة دول الحلف (المحور) وتوقيع اتفاق صلح فرساي 1919، الذي رسخ للموجة الأولى ممن التفكيك والتركيب في شرق القارة الأوربية ووسطها، حيث تم تقسيم الإمبراطورية النمساوية ـ المجرية إلى دويلات قومية عدة، وتم تفكيك الدولة العثمانية وحصلت دول عدة على استقلالها، هي تشيكوسلوفاكيا وإســتونيا ولاتفيا ولتوانيا وبولندا، وتوسعت رومانيا وصربيا ويوغوسلافيا على حساب ولايات الدولة العثمانية، والإمبراطورية النمساوية المجرية.

فلم يؤد توقيع الهدنة في منتصف نوفمبر 1918 إلى السلام والاستقرار في البلقان، فاليونان وتركيا لم تتوصلا إلى تسوية خلافاتهما حتى 1922، وقامت رومانيا بغزو المجر عام 1919، واستمرت القوات اليوغوسلافية في مهاجمة الأراضي النمساوية حتى عام 1921، وصولًا لتكوين دولة لسلاف الجنوب، وتأسيس رومانيا الكبرى، وطرد اليونانيين من آسيا الصغرى، وتفكيك الإمبراطورية العثمانية، وتكوين حكومة ألبانية جديدة، وفق خرائط واستراتيجيات شاركت في صياغتها كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، وغياب كل من ألمانيا وروسيا والنمسا عن مؤتمرات الصلح واتفاقيات التسوية.

لقد كانت أوربا بعد الحرب العالمية الأولى تعيش ما يمكن تسميته ثورة العرقيات والأيديولوجيات القومية، حيث روسيا تحكمها حكومة شيوعية، وأصبحت مركزًا لتصدير الثورة الشيوعية ودعم تكوين الأحزاب الاشتراكية والتمدد جنوبًا وغربًا لتكوين ما عرف لاحقًا باسم “الاتحاد السوفيتي” عام 1922.

وبينما كانت الدول الصغيرة التي خرجت منتصرة في الحرب العالمية الأولى، تفضل الوقوف إلى جانب المعاهدات السرية التي من شأنها توسيع مساحاتها الجغرافية على حساب الإمبراطوريات المنهارة، إلا أن صربيا وهي دولة صغيرة رفضت بنود معاهدة لندن السرية، وسعت لتعظيم نفوذها في البلقان، وفي التسويات النهائية حققت يوغوسلافيا ورومانيا مكاسب كبيرة وتوسعت أراضيهما على حساب كل من بلغاريا وتركيا الجديدة واليونان، وعادت ألبانيا إلى ما كانت عليه قبل الحرب.

حرب عالمية ثانية وموجة ثانية من التفكيك والتركيب

كان صلح فرساي 1919 وتسويات ما بعد الحرب العالمية الأولى سببين في قيام الحرب العالمية الثانية، نظرًا لسعي ألمانيا النازية للثأر والانتقام والتخلص من القيود المفروضة عليها جراء تلك التسويات، فاجتاحت بولندا في سبتمبر 1939، وخلال العامين التاليين توسعت واحتلت دول الدنمارك والنرويج في شمالي القارة، وهولندا وبلجيكا ولوكسمبورج في غربي القارة، بالإضافة إلى النمسا وتشيكوسلوفاكيا والمجر، وهاجمت بريطانيا.

واستمرت في زحفها على جنوبي القارة وشرقيها حيث احتلت يوغسلافيا وجزيرة كريت عام 1941، وبدأت تتحرك على الجبهة الشرقية نحو الأراضي السوفيتية، وأكملت سيطرتها واحتلالها لأراضي فرنسا عام 1942، ومع تراجع قدراتها ودخول الولايات المتحدة الحرب إلى جانب الاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا، اجتاحت القوات السوفيتية شرقي أوربا وقامت بغزو استونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا ورومانيا والمجر خلال عام 1943 و1944، حتى فرضت سيطرتها على شرق ألمانيا عام 1945.

ومع انتهاء الحرب وتوقف العمليات العسكرية، بدأت التسويات لإعادة تفكيك وتركيب خرائط القارة الأوربية، وتحديدًا في البلقان وشرق أوربا، وهو ما جاء على النحو التالي:

1ـ تقسيم ألمانيا إلى دولتين، الغربية وعاصمتها بون والشرقية وعاصمتها برلين.

2ـ استقلال أيسلندا عام 1944، وأيرلندا الشمالية عن الكومنولث البريطاني عام 1948، وكذلك الدول التي خضعت للاحتلال الألماني الإيطالي، مثل النرويج، الدنمارك، فنلندا، هولندا، بلجيكا، لوكسمبورج، فرنسا، المجر، رومانيا، بلغاريا، ألبانيا.

3ـ إعادة تركيب دولة يوغسلافيا بعد إلغاء كرواتيا وضم إقليم مقدونيا إليها الذي كان داخل حدود بلغاريا خلال فترة الاحتلال الألماني لها، بالإضافة إلى شبه جزيرة استريا وبعض الجزر الصغيرة التي كانت خاضعة للاحتلال الإيطالي أثناء الحرب.

4ـ تأكيد الوضع القانوني للفاتيكان كدولة مستقلة في الدستور الإيطالي الذي صيغ بعد الحرب العالمية الثانية عام 1947، والذي سبق النص عليه في اتفاقية لاتيران التي عقدت عام 1929 بين إيطاليا وبابا الفاتيكان.

5ـ احتلال الاتحاد السوفيتي لدول البحر البلطيق الثلاثة استونيا ولاتفيا وليتوانا، كما ضم الاتحاد السوفيتي إلى أراضيه إقليم روثينا من تشيكوسلوفاكيا، وأجزاء من شرقي بولندا، ومساحات من إقليم بروسيا الشرقية من ألمانيا، وإقليم بيسارابيا من رومانيا، كما ضم إقليمي كاريلين ايسثموس وبيتسامو وشبه جزيرة بوركالا من فنلندا.

6ـ إعادة هيكلة أراضي اليونان وإيطاليا وبولندا، فاليونان ضمت إلى أراضيها جزيرة كريت وجزر الدوديكانيز في بحر إيجة، وإيطاليا حصلت على ميناء تريستا من يوغسلافيا ومساحات من اليابس على خليج فينيسيا، وبولندا ضمت أجزاء من بروسيا الشرقية وإقليم سيليزيا الغني برواسب الفحم، وإقليم بوميرانيا المطل على بحر البلطيق، وإقليم شليزيين الممتد على نهر الأودر.

ومع هذه السياسات من التفكيك وإعادة التركيب كان طبيعيًا ألا تستقر الأوضاع في هذه المنطقة من العالم، إلا أن هيمنة الاتحاد السوفيتي على الكتلة الشرقية وتشكيل حلف وارسو، ثم هيمنة الولايات المتحدة على غرب أوربا وتشكيل حلف الناتو، ودخول عدد من دول وسط أوربا وغربها في تكتل اقتصادي (السوق الأوربية المشتركة) أدى إلى ما يمكن تسميته “الهدوء الحذر” مع دخول العالم في حرب باردة استمرت نحو 45 عامًا.

حرب عالمية باردة وموجة ثالثة من التفكيك والتركيب

مع انهيار سور برلين 1989، والاتحاد السوفيتي 1991، بدأت موجة ثالثة من التفكيك والتركيب في شرق أوربا ووسطها، فقد تمت إعادة توحيد ألمانيا (الشرقية والغربية)، وتفكك الاتحاد السوفيتي إلى 15 جمهورية تتوزع بين 8 جمهوريات في وسط آسيا والقوقاز (أوزبكستان، كازاخستان، طاجيكستان، قرغيزستان، تركمانستان، أذربيجان، أرمينيا، جورجيا)، و7 جمهوريات في شرق أوربا والبلطيق (روسيا الاتحادية، روسيا البيضاء، أوكرانيا، مولدوفا، إستونيا، ليتوانيا، لاتفيا)، وتفكك الاتحاد اليوغوسلافي إلى 6 جمهوريات مستقلة (كرواتيا، سلوفينيا، مقدونيا، صربيا، الجبل الأسود، البوسنة والهرسك)، كما انقسمت تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين (التشيك والسلوفاك).

وكان الانهيار السوفيتي سببًا في نشوب العديد من المواجهات العسكرية سواء بين الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي وبعضها الآخر (مثل الحرب الروسية الجورجية 2008، أو الحرب الروسية ضد أوكرانيا 2014 واحتلال روسيا لشبه جزيرة القرم، والحرب الروسية الأوكرانية 2022)، أو الحروب الأهلية داخل حدود عدد من دول المنطقة (مثل حرب الشيشان الأولى 1995 والثانية 1999 داخل روسيا الاتحادية، والحرب في إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا بدعم روسي، وكذلك الدعم الروسي للنزعات الانفصالية في إقليم الدونباس وشبه جزيرة القرم بأوكرانيا، وإقليمي ترانسنيستريا وجاجاوزيا في مولدوفا، وإقليم أرتساخ في أذربيجان وغيرها من أقاليم خاضعة لجمهوريات سوفيتية السابقة).

هل نحن أمام موجة رابعة من التفكيك والتركيب؟

جاء التدخل الروسي في جورجيا 2008 وفي أوكرانيا 2014، وضم روسيا لعدد من أقاليم هاتين الدولتين، والتهديدات الروسية لكل من استونيا ولاتفيا ومولدوفا، ومع تداعيات وتطورات العدوان الروسي على أوكرانيا 2022، وإعلان روسيا ضم أربعة أقاليم أوكرانية إلى أراضيها، يمكن القول إننا أمام موجة رابعة من التفكيك والتركيب عنوانها الكبير “استعادة مجد الإمبراطورية الروسية” تحت قيادة بوتينية.

إلا أن تحولات الأحداث وردود الفعل الدولية تجاه الحرب الروسية قد تدفع نحو مسارات مضادة، ويتم استهداف روسيا الاتحادية تفكيكًا وتركيبًا، من ناحية جغرافيتها السياسية أولًا، والجغرافيات السياسية والجيو سياسية والجيو استراتيجية لمنطقة شرق أوربا بصفة عامة للحيلولة دون قيام نزعات روسية توسعية مستقبلًا.

إلا أن ذلك، لو حدث، فلن يوفر الأمن والاستقرار في شرق أوربا، بل يمكن أن يدفع نحو موجة أخرى من الحروب والمواجهات، في منطقة تتشابك فيها الصراعات العرقية والدينية والمذهبية، وصراعات الثروة والنفوذ حول الموارد والمكانة والهيمنة، وتتداخل فيها عشرات الأطراف من داخل القارة وخارجها، ولما لا، وهي كانت مؤئلًا للعديد من الإمبراطوريات التاريخية الكبرى، ومنطلقًا للعديد من الحركات والأيديولوجيات القومية، وما أكثر أعواد الثقاب الجاهزة اليوم لتفجير براميل البارود في الشرق الأوربي.

المصدر : الجزيرة مباشر