البكاء على أطلال “الحديقة اليابانية” بالقاهرة

فتيات يسرن بين تماثيل الحديقة اليابانية بالقاهرة (رويترز)

لا أدري ما الذي جذبني إلى هذا الإعلان الطريف، فما الذي يدفع أحدهم إلى الذهاب لحضور درس شاي تنظمه المؤسسة اليابانية في القاهرة؟!

قد يكون السبب هو ذلك الاسم العريق الذي ارتبط لديّ بذكريات طفولة جميلة “الحديقة اليابانية” بمدينة حلوان العريقة، جنوب القاهرة.

أيام الطفولة

تذكرت تلك الأيام الخوالي التي كنت ألهو فيها وأنا طفلة في جوانب الحديقة، أصوات المرح الطفولي، ونظرات الدهشة اللامتناهية عبر تلك التماثيل الضخمة، التي يتوسطها رجل سمين له بطن ضخم، يطلق عليه المصريون “كرش”، كان الإعلان على صفحة مؤسسة اليابان بالقاهرة، عن دروس مراسم تقديم الشاي الياباني “تشا نو يو” الذي تنظمه مؤسسة “أورا سينكيه” في مصر بالتعاون مع مؤسسة اليابان بالقاهرة.

ولأن تقديم الشاي فى اليابان فن من الفنون التي تحظى بقواعد وطقوس خاصة نابعة من الثقافة اليابانية، فقد تم وضع لائحة طويلة من الشروط التي يجب اتباعها عند الرغبة في الحضور، من هذه الشروط على سبيل المثال إحضار ثوب أبيض نظيف لارتدائه عند دخول غرفة الشاي، وخلع أي إكسسوارات فى اليد (خاتم، ساعة إلخ) لأن هذه الأشياء قد تتسبب فى جرح الأدوات والأواني، ويمنع المشي في الفصل أو التحدث بصوت عالٍ وبالطبع ضبط الهواتف المحمولة على وضعية الصامت والقائمة تطول…

هذا الإعلان أعاد ذاكرتي إلى الوراء، متذكرة الرحلات المدرسية التي كنا نتهافت عليها في طفولتنا، والتي كانت دومًا تضم الذهاب إلى إحدى الحدائق بجانب برنامج الرحلة.

وكم كنا نسعد كثيرًا عند معرفتنا أن برنامج الرحلة يضم الذهاب إلى “الحديقة اليابانية” التي كانت حينها إحدى الوجهات الشهيرة بحلوان بسبب المظاهر الجمالية والأنشطة الترفيهية التي تتمتع بها الحديقة من برك صناعية، تضم قوارب صغيرة ذات ألوان مبهجة، ليتجول بها الزوار عبر القنوات المائية، والنافورة التي كانت تحوي تمثالًا لبوذا جالسًا على زهرة لوتس محاطًا بثلاثة أفيال، وتمثالًا لسيدة مبتسمة ذات ملامح آسيوية وتماثيل قرود الحكمة الثلاثة الذين يعبرون عن الحكمة القائلة (لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم)، وممر الفوانيس الذي كنا نسير فيه وصولًا إلى 44 تمثالًا باللون الوردي يمثلون التلاميذ والمعلم، والمسطحات الخضراء على غرار الحدائق اليابانية، التي تعتبر جزءًا أصيلًا من الثقافة اليابانية لتحقيق السلام والوئام من خلال عناصر أساسية أهمها (النباتات، الماء، الصخور والجسور)، وملاهٍ صغيرة للأطفال يطلقون عليها ملاهي علي بابا. والحديقة هي من فكرة وتصميم المهندس المعماري المصري ذي الفقار باشا، الذي قام بإنشائها لتكون رمزا لثقافات الشرق، ثم أهداها إلى السلطان حسين كامل، الذي كان حاكمًا لمصر في ذلك الوقت.

وكانت الحديقة تسمي حينها “كشك الحياة الآسيوي”، ويعود هذا الاسم إلى كشك الموسيقى الذي يوجد بالحديقة، والذي كانت تستخدمه بعض الفرق الموسيقية، ثم سميت بعد ذلك “الحديقة اليابانية”.

ما بقي من البحيرة والقوارب

قصة الكشك

كانت مدينة حلوان وقتها ملاذًا شتويًّا للطبقة الثرية لما تنفرد به من مناخ جاف وعيون معدنية وكبريتية، تساعد على علاج كثير من الأمراض كالأمراض الجلدية والروماتيزمية، فضلا عن موقعها الفريد على النيل ومسطحاتها الخضراء.

وظلت الحديقة وجهة أساسية لزائري حلوان حتى طالتها يد الإهمال شيئًا فشيئًا، بعد أن تحولت حلوان في الخمسينيات من القرن الماضي من مدينة للاستشفاء إلى مدينة صناعية تضم العديد من المصانع مثل مصانع الحديد والصلب والإسمنت.

ومع مرور الأيام والتوسع العمراني أصبحت حلوان من المناطق البعيدة، فأهملت الحديقة، ولم تعد تلق أي اهتمام أو رعاية كما كانت.

واسترجاعًا للذكريات، قررتُ زيارة الحديقة، ومن المؤسف أن أصف هذه الزيارة بأنها كانت مخيبة للآمال بدءًا من نقطة الوصول، حيث كانت اللافتة التي كُتب عليها اسم الحديقة تعكس ما آلت إليه من قدم وإهمال.

دخلت من البوابة الرئيسة بعد أن قطعت تذكرة دخول بـ10 جنيهات، وهو مبلغ زهيد جدًّا، وأردت أولًا رؤية برك المياه التي تقع قرب البوابة الرئيسة، فوقعت عيني على البركة التي تحوي عددًا من القوارب الملونة ويطل عليها تمثال بوذا المبتسم، وكانت المياه بالبركة متسخة جدًّا رغم أنها البحيرة الوحيده التي يوجد بها ماء، أما باقي البرك فقد جف ماؤها وأصبحت سلات مهملات، يلقي فيها الزائرون قماماتهم. أكملت طريقي وصولًا إلى 44 تمثالًا محاطة بسور حديدي، وقد أصابني الذهول عندما رأيت زائرين يعتلون التماثيل بطريقة غير لائقة من دون وعي منهم بالضرر الذي قد يلحقونه بها.

أخبرني أحد العاملين بالحديقة أن هذه التماثيل كانت قد رُممت عام 1990 بعد أن ضُمت الحديقة إلى مشروع الحدائق المتخصصة، لتعود بسبب السلوكيات المتردية من قبل بعض الزوار إلى التدمير مرة أخرى.

البؤس داهم التماثيل التي تم ترميمها سنة 1990

أطلال قصر الخديوي توفيق

خارج سور الحديقة يقف مبنى عملاق مخيف جدًّا خاصة في الليل، يوحي للمار بأنه قد تعرض للقصف في حرب ما. علمت أن هذا القصر يعرف باسم قصر الخديوي توفيق، وأن الخديوي توفيق هو الذي أنشأه، وكان يضاهي به القصور الأوربية، ويحرص على الذهاب إليه باستمرار، لكنه اليوم مكان مهجور مخيف.

تركت الحديقة واليأس يكسو ملامحي، حلمت بأن الساحرة الطيبة، التي كنت أحلم بها في طفولتي، قد طارت فوق الحديقة ولونتها مرة أخرى فأعادتها إلى سابق عهدها، قد تأتي الساحرة مرة أخرى على هيئة سلوكيات راقية من الزوار، واهتمام من الجهات المسؤولة عن التراث وتنشيط السياحة، لتنقذ الحديقة مما أصابها من إهمال.

لم أعد مهتمة بدروس “الشاي الياباني”، فقط رُدوا عليّ حديقتي.

قصر الخديوي توفيق
المصدر : الجزيرة مباشر