مصر: المؤتمر الاقتصادي بين حديث القاعات.. وواقع الحياة

صباح الأحد 23 أكتوبر الجاري، كنت استمع لرئيس الوزراء المصري د. مصطفى مدبولي وهو يلقي كلمة الافتتاح للمؤتمر الاقتصادي الذي عُقد لمدة ثلاثة أيام بهدف رسم خريطة طريق للاقتصاد المصري للسنوات المقبلة.

مدبولي كان منهمكاً في جانب من الحديث عن حالة الاقتصاد اليوم والمقارنة بين أوضاعه في العهد الحالي وبين العهد السابق (مبارك) الذي استمر 30 عاماً، لتكون نتيجة المقارنات أننا اليوم أفضل كثيراً عما سبق، وأن التضحيات لها مردود ومقابل، وضمن أهداف ذلك إثبات صحة مسار السياسات الاقتصادية، وربما من بعيد محاولة دحض الحنين الشعبي المتزايد إلى الماضي، والتشويش على عبارة متداولة تقول: (ولا يوم من أيامك يا مبارك)، والقصد هنا الأيام الحنونة في الأسعار والنفقات والمعاش والتدبير، وهامش الحريات والأمان في الكلام والنقاش والحركة والنقد والمعارضة.

والحقيقة أنني خلال حكم مبارك كنت دوماً استمع لنفس المقارنات بين عهده وإنجازاته الاقتصادية والاجتماعية وفي البنية التحتية وبين العهد الذي سبقه للتدليل على أن الوضع صار أفضل كثيراً في ظله.

حكام العناية الإلهية

وعلى نفس النمط من حكام العناية الإلهية بالبلد فإن الرئيس السادات في حوار شهير له مع السيدة همت مصطفى رئيس التلفزيون آنذاك لم يقارن مرحلته الرئاسية بالمرحلة الناصرية السابقة عليه فقط إنما تجاوزها كثيراً وعاد بالتاريخ إلى عهد الخديوي إسماعيل، واعتبر أن مصر منذ إسماعيل حتى توليه السلطة كانت شيئاً ولما قاد البلد صارت شيئاً مختلفاً، طبعاً للأحسن.

وخلال حكم عبد الناصر تم صك مصطلح العهد البائد -والمقصود به عهد الملكية- للترويج بأن العهد الناصري كان مرحلة انتشال مصر والمصريين من بحار الفقر والجوع والحرمان والجهل والتخلف، هكذا كانت الدعاية الناصرية تعتبر أن ميلاداً جديداً لمصر بدأ مع ثورة يوليو.

لعبة المقارنات لا تتوقف

مقارنات الأمس، هى مقارنات اليوم، لعبة المقارنات لن تتوقف، وفي عهد قادم يوماً ما سيكون نفس الحديث المكرر عن أننا جئنا لننقذ، وستكون المقارنة المعتادة أننا نبني بلداً لم يهتم به السابقون، وأن الله قيض من يحفظه من الضياع ويقيمه من عدم.

هكذا كل نظام حكم يتفنن في إبراز محاسنه وجمالياته وإنجازاته ويقرر أن ما قبله كان سيئاً بل هو السوء ثم يدغدغ مشاعر المواطنين بأنه هبة لحظة تاريخية قدرية لصنع النهضة المنتظرة.

لم يقل نظاماً إنه يواصل ما بدأه سابقه، ولو كان قليلاً ومحدوداً، إنما لا منجز فيما مضى، ولا حتى رصف متر في طريق، بل الأوضاع العامة كانت أزمات وتدهور، ثم النظام الجديد يقدم نفسه عبر آلة الدعاية الرسمية باعتبار أن البلاد تُبعث معه، وكل من كان قبله لم يكن شيئاً مذكوراً.

عادة فرعونية

واضح أنها عادة مترسخة منذ القدم في مصر، وأصبحت ضمن قواعد الحكم، فالمتداول أن كل فرعون يتولى الحكم كان يمحو آثار من كان قبله، حتى يكون هو الفرعون الأوحد ويتغافل أنه برحيله هو الآخر سيبدأ عصر جديد من محو تاريخه وإهالة التراب على تراثه على أيدي الفرعون الجديد في متوالية لا تزال مستمرة.

وحتى على مستويات تنفيذية أدنى نجد الأمر ذاته في تصريحات كل وزير جديد فهو ينسف جهود وعمل ونشاط من سبقه مقدماً نفسه على أنه المبدع في القطاع الذي تعمل فيه وزارته.

مثلاً، وزير التعليم الحالي كان نائباً للوزير السابق وكان الرجل الثاني في الوزارة، وكان يدافع بشدة عن قرارات وزيره، ولم تكد تمر أيام على جلوسه على المقعد حتى بدأت سلسلة قرارات مناقضة لكل ما سبق، ونسف كل ما كان يدافع عنه بنفسه.

كيف نفهم ذلك؟، نفهمه في إطار عدم وجود استراتيجيات وخطط عمل واضحة بحيث يأتي المسؤولون لتنفيذها مرحلة بعد أخرى بغض النظر عن أشخاصهم، وليس أن يأتي كل مسؤول بخطته الوقتية الفردية، ثم لمّا يذهب نكون أمام خطة جديدة لشخص ومزاج وفكر جديدين، والخطتان السابقة واللاحقة لا تبنيان بلداً ولا تخدمان مواطناً، مجرد تجارب واجتهادات وعشوائيات السياسة والتفكير، وهكذا نظل في دوامة الانتقال من تخبط إلى آخر لتكون النتيجة أزمات في السياسة والاقتصاد والأوضاع الاجتماعية ومختلف جوانب الحياة، وتتبدد السنوات والعقود، والبلاد لا تتقدم أو تتطور أو تنهض إنما تواجه مزيداً من الأزمات التي تتعقد ونظل في معاناة وآلام وشكاوى وبحث عن مبررات للتهرب من الإخفاق.

سبعون عاماً منذ تأسيس الجمهورية في مصر حتى اليوم، فماذا عن مشروع النهضة؟ ماذا عن محاكاة نموذج اليابان وألمانيا، أو كوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا وتركيا وإندونيسيا؟
الحال يغني عن المقال، مجرد تدبير العيش اليومي للمواطن للبقاء على قيد الحياة لدى الشرائح الغالبة في المجتمع صار كفاحاً حقيقياً، العيش، وليس الادخار، والاستثمار، والامتلاك والترقي والطموح والرفاهية.

اقتصاد البيانات.. واقتصاد الواقع

أغرقنا رئيس الوزراء في كلمته بالأرقام والإحصائيات والبيانات والجداول والنسب المئوية والمقارنات والمقولات لبعض الأكاديميين والمفكرين والأدباء، بهدف التبرير للحالة الصعبة التي وصل إليها الاقتصاد بعد سنوات من التبشير بجني ثمار الإصلاح والعيش الرغيد.

نعم الاقتصاد أرقام وإحصائيات وبيانات، لكن الاقتصاد أيضاً هو الواقع في البيوت والشوارع والأسواق والمتاجر والمحلات وجيوب وبطون وحياة الناس اليومية، وهو في اليقين والأمل والتفاؤل والوجوه المبتسمة، الأرقام قد تكون إيجابية ومطمئنة، لكنها تسقط وتفقد القيمة والدلالة عندما تصطدم بالواقع القاسي وعندما يعجز المواطن عن الحصول على مستوى مقبول من العيش الكريم، أو يصعب عليه تدبير نفقاته، وعندما يزداد التضخم، ويتسع الركود وتشتعل الأسعار دون كابح وتتزايد الشكوى ويكون الحنين لليوم السابق والعهد السابق رغم أن السابق لم يكن المثال والنموذج، لكنه الحلم بالأقل قسوة في مواجهة الأشد قسوة.

أن يُعقد مؤتمر اقتصادي فهذا جيد، وكان يجب انعقاده قبل 8 سنوات، وكان يجب إتاحة الفرصة للقطاع الخاص الجاد والمنتج، وكان يجب وضع خطط تنمية تركز على التصنيع والإنتاج والتصدير والزراعة وتطوير التعليم والصحة وتزايد الدور الاجتماعي للدولة، لا الانسحاب التدريجي منه، والانفتاح السياسي والحريات والرقابة والمحاسبة والشفافية ودولة القانون لأن ذلك هو البوابة الحقيقية والوحيدة للتنمية وبناء اقتصاد قوي يواجه الصدمات والتحديات، إذ بدون حياة سياسية طبيعية تتعدد فيها الآراء فلن يكون هناك استثمار مطمئن واقتصاد مستقر مهما عُقدت مؤتمرات.

المصدر : الجزيرة مباشر